همسات الخميس
بين عامي 1972 و1976 كنت في مكة المكرمة طالبا في كليتها العتيدة كلية التربية الأخت التوأم لكلية الشريعة، كليتان انضمتا إلى جامعة الملك عبد العزيز فباتتا فرعا لها في مكة تحت مسمى جامعة الملك عبد العزيز شطر مكة، ثم انفصل الفرع ليكون جامعة مستقلة تحت مسمى جامعة أم القرى ولكن بعد أن غادرناها إلى عالم الوظيفة الأكبر هميانا الأضيق أفقا.
تلك حقبة من العمر جميلة، صنعت جمالها مكة المؤثرة روحا الموحية تاريخا، حرمها الآمن وجبالها الشامخة وأحياؤها الولّادة، أهلها الموغلون (مثل الشعوب العريقة) في شعبيتهم المتسنمون (مثل الشعوب الحيّة) سنام التحضر، وصنعته أسواقها التي تجتمع فيها الجهات الأصلية والفرعية وسائر خطوط الطول ودوائر العرض داخل دكان واحد.
كان موسم الحج لوحده كافيا ليأخذك إلى عوالم من الدهشة والجمال فيضيف لك معرفة ويحذيك مهارة ويثريك وجدانا، وكنت مثل كثيرين غيري التحم مع الحج بحثا عن معرفة أو كسبا لمهارة أو تماهيا مع لطيفة من لطائف الوجدان، فكنا نواظب على الأمسيات الثقافية التي يزخر بها الموسم الثقافي لرابطة العالم الإسلامي في قصر السقاف القريب من بيتي وكنا أيضا نعمل بأجر في خدمة الحجيج.
كان الحج الإيراني من بين العلامات البارزة في محيط رؤيتنا، وكانت عبارة سازمان أوقاف إيران تعلو لافتات إعلانية تنسدل فوق عمائر تستأجرها وزارة الأوقاف الإيرانية يسكن فيها حجاج إيران، وكان حجاج إيران في غاية الهدوء والتهذيب وكان المستوصف الإيراني الذي توفده إيران ضمن بعثتها يقدم خدماته الصحية لحجاج إيران ولغيرهم من الحجاج.
كنا نرى الشعب الإيراني العريق وهو يؤدي مناسكه بأدب جم، فنرى في أدبهم الجمّ ذلك صناع ثقافته الإنسانية، من ابي القاسم الفردوسي إلى عمر الخیام إلى جلال الدین الرومي وحافظ الشیرازي إلى الشاعرة ثريا اعتصامي، وكنا نرى في أدبهم الجم ذلك ملحمة الشاهنامة ورباعيات الخيّام وذلك الوهج البهي من المفردات الفارسية التي حفل بها القرآن الكريم واحتوتها لغات كثيرة كالعربية والعثمانية والأوردية.
وبينما كنا ننتظر من الثورة الإسلامية الإيرانية أن تتمم مكارم الاخلاق إذا بها تسيّر كتائب من الحرس الثوري الغليظ جدا للحج، وإذا بذلك الهدوء وذلك اللطف وتلك السمات الإنسانية تتحول إلى مواد شديدة الانفجار وإلى تفجيرات وإلى دفع متعمد للحجاج الآمنين، وإذا بالوجه الإيراني الجميل قد كممته العصائب العنصرية السوداء، وإذا بالثقافة الإيرانية الإنسانية قد حلت محلها الطائفية النتنة، وهذه حالة مؤسفة جدا وصلت اليها إيران لا تسر إيرانيا على وجه الأرض، ولا تسر أحدا من محبي التاريخ الإيراني العريق.