قال لي صديق من كبار الأدباء الوجهاء: عرفت وشبابي في نفخته الأولى رجلا كذابا، كان من الوصولية والانتهازية على السنام، ومن الخبث والدهاء في القمة، وكنت قد شمرت عن ساعدي لتعقبه، وتفنيد أكاذيبه، وكشف عواره، ليراه الناس على حقيقته، لكني وللحق كنت أخفق في ذلك دائما، وفي كل جولة كنت أزيد من أتباعه، بينما يتكاثر من حولي الشامتون والصامتون.
ثم قال صديقي الأديب الوجيه: كلما رأيتهم حوله جماعات ووحدانا وقفت فيهم خطيبا، كشفت شهاداته المزورة، ومدوناته التي لم يقرأ منها حرفا واحدا، وصورت لهم الوثائق التي أمضيت في جمعها دهرا، وأنفقت في سبيلها مالا طائلا، كنت أصرخ فيهم وأرى عيونهم تتفرس وجهي وكأنها عيون الضفادع فإذا حان موعدهم معه تركوني قائما ومضوا إليه.
وقال: اقتحمت مجلسه ذات يوم فوجدته تحف به الزرافات، ويتطارح حوله الآحاد، إن تكلم صمتوا وإن صمت خنسوا، هو عندهم العارف بكل شيء، اليقظان والناس نيام، قلت هذا يومي الموعود لأضع النقاط على الحروف فكنت له بالمرصاد، إن تكلم قلت له هذه ليست عند الفيروز آبادي، وإن رأى رأيا قلت له هذا ليس عند ابن سحنون، وإن وصف أرضا قلت له سبقك إليها ابن خرداذبّة.
ثم قال صديقي الأديب: ضقت ذرعا بما أرى، وزاد همي وغمي، وأصابني من هذا الأفّاق احباط كبير فمرضت، مرضت فعلا وبت طريح الفراش، لم أغادر فراشي لأيام كثيرة فما قام بعيادتي منهم الا أقلهم شأنا، جاءني يلوك مسواكا في فمه قد أتى على معظم جرمه فلم يبق منه الا القليل وقد تناثر فتات المسواك على أطراف فمه بل وصل حتى شحمة أذنه.
قال: انحنى زائري حتى اقترب من أذني ثم همس بكلمات سمعت منها أن الجمل لا يرى اعوجاج سنامه، استويت جالسا فأضاف: فيك عيب كبير لكنك لا تراه، وعندما رأى جحوظ عيني أضاف: شغلت نفسك بصاحبك وأنت أفضل منه، أفضل منه علما وأوسع اطلاعا وأثرى تجربة، لكنك مشغول به، لو انشغلت بنفسك لنفعت الناس ونفعت نفسك، قال صديقي الأديب الوجيه: قمت من فراشي وكأنما قد نشطت من عقال، تركت بعدها ما لا يعنيني إلى ما يغنيني.
محمد ربيع الغامدي
ما أجمل المكتوب !