حدَّثني صديق كان مقيماً بتايلاند لعدة سنوات عن اعتزاز التايلانديين بلغتهم، وكيف أنهم يدرِّسون بها في مدارسهم وجامعاتهم، ويصرون على الحديث بها، حتى إن أي أجنبي يطأ أرض بلادهم يُضطر مرغماً لتعلمها حتى يتعامل معهم.
وإذا تجولتَ في شوارع عاصمة تايلاند أو غيرها من المدن، فطالعت اللافتات المعلقة؛ لوجدتها مكتوبة باللغة التايلاندية، وأغلب مدلولاتها مأخوذة من لغة التايلانديين، ولوجدت السلع والمنتجات التي تُصنَّع محلياً قد كُتبت بلغتهم أولاً قبل أن تكتب بأي لغة أجنبية أخرى.
ولم يمنع التايلانديين تدريسهم بلغتهم في الجامعات في كل التخصصات العلمية والأدبية أن تحرز جامعاتهم مواقع متقدمة في مصاف الجامعات العالمية.
قارنت هذا الوضع لدولة تعتزُّ بلغتها التي لا يتحدث بها سوى سكانها، وتصر على فرضها، وتسعى لتطويرها حتى تستوعب العلوم والمعارف، قارنت ذلك مع حال 22 دولة عربية تنكَّر كثير من أبنائها للغتهم، اللغة التي اختارها الله تعالى لكلامه، لغة النبي عليه الصلاة والسلام، واعتبر بعضهم دراستها نوعاً من التخلف، واتهمها بأنها عاجزة عن استيعاب العلوم الحديثة، فصاروا يجارون الأعاجم في لغاتهم، ويتشدقون بمعرفة اللغات الأجنبية، بينما لا يكاد يحسن الواحد فيهم لغته الأم!
ورحم الله حافظ إبراهيم الذي قال:
وَسِــــــــــعْتُ كِتابَ اللهِ لَفظًا وَغَايَةً
وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ
فَكَيْفَ أَضِيقُ الْيَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلةٍ
وَتَنْسِيقِ أَسْمَــــــــــاءٍ لِمُخْترَعَــــــــــــاتِ
وتستغرب إذا سافرتَ إلى إحدى الدول العربية، فتحدثتَ باللغة العربية في المطار مع الموظف العربي، فتفاجأ به يجيبك بالإنجليزية كأنه يتبرأ من لغته، ويُخلي طرفه منها!
ولو تجولتَ في شوارع كثير من الدول العربية لعرفت حجم المأساة، حين تجد كثيراً من اللافتات قد كُتبت بلغات أجنبية بأحرف تلك اللغات، أو بالعربية لتدل على مدلولات أجنبية، ولا تعجب إن رأيت اللغة الأجنبية مقدَّمة في الكتابة على اللغة العربية! أو إن وجدتَ جامعاتها تدرِّس بلغات أجنبية، وكأن اللغة العربية قاصرة عن استيعاب العلوم والمعارف وقد (وسعتْ كتاب الله لفظاً وغاية) كما قال حافظ إبراهيم رحمه الله!
وتزداد الحسرة حين تقف على شدة إقبال أولياء الأمور على إلحاق أبنائهم بالمدارس التي تدرِّس بلغات أجنبية، في مقابل إهمالهم لتعليم أبنائهم اللغة العربية!
لسنا ضد تعلم اللغات الأجنبية وإجادتها، لكن ينبغي ألا يكون ذلك خصماً على اللغة العربية، وعلى من تعلم لغة أجنبية أن يعرف متى يتحدث بها، ومع من يتحدث بهذه اللغة، بعيداً عن الاستلاب الثقافي والتبعية العمياء، لا كما نرى من الكثيرين الذي يُباهون بتعلمهم اللغات الأجنبية، ويقحمونها في كلامهم، وإن لم يستدعِ السياق أو التوضيح ذلك!
ويجعل الكثيرون من تعلم اللغات الأجنبية غاية في حد ذاتها، وليس وسيلة للتواصل والاستزادة من العلوم والمعارف، ويعتبرون ذلك مؤشراً للثقافة والرقي، مع أن الأجانب أنفسهم يزدرون أمثال هؤلاء ممن يديرون ظهورهم للغتهم ويعدونهم مصابين بانفصام في شخصياتهم ومستلبين ثقافياً.
الشعوب التي تحترم نفسها تضع تعليم لغتها ونشرها على رأس أولوياتها، وتنفق في سبيل ذلك من كرائم أموالها؛ لأن لغتها عنوان لوجودها، ورمز لهويتها، ونبراس لكينونتها.
علي صالح طمبل