المقالات

العالم قبل التلوين !

“في البدء كانت الكزبرة!” من الأسئلة الوجودية التي نشأت معي منذ أيام الطفولة كان هذا السؤال الحائر الغائر في ذاكرتي : ما الفرق بين الكزبرة و البقدونس؟ .

واجهني هذا السؤال في أول لقاء لي مع العالم خارج الحي . أذكر وقتها أن أبي اصطحبني معه إلى حلقة الخضار. كنت أشعر بقلق تجاه هذا التشابه الذي أسلمني إلى حالة نفسية حدّ الاكتئاب . تحول فيما بعد إلى رغبة في الهروب من كل ما يثير في الذهن حضورا للكزبرة أو البقدونس . امتد هذا القلق إلى علاقتي بكل ما يمت لهذين الصنفين بصلة من قريب أو بعيد إلى درجة أني بدأت أتوتّر بالفعل مع كل بريق للون الأخضر فينعكس على ملامحي . كانت أمي تلاحظ امتقاع لوني حين ترسلني إلى بائع الخضار في الحي ، حتى إنها سألتني يوما عن الارتباك المتكرر بمجرّد أن يرد اسم الكراث عرضا .

لم تكن مشكلتي الوجودية مع الكراث أساسا ، بسبب ما حدث بيننا من ألفة أثناء تربيتي الدواجن ، ثم الحمام في تطور دارويني ، يوم كان حيّنا يشترط لكل طفل ، بحكم العادة ، حمامة أو حمامتين يقوم على رعايتها و إلا فقد معنى الرجولة التي لابد أن يتهيّأ لها مبكرا ، و كانت تربية الطيور بطبيعة الحال توقظ فينا الإحساس بالمسؤولية و الإنتاج معًا ، بيد أن مشكلتي مع الكراث تفاقمت لاحقا حين كبر في ذهني سؤال البقدونس .

البقدونس في هذا السؤال الوجودي المحرق هي جوهر قضيتي؛ إذ لا مشكلة لي أساسا لا مع الكراث و لا مع الكزبرة ، ففي البدء كانت الكزبرة . كانت أوّل مواجهة لي مع البقدونس خارج محيط حيّنا ، حين تعرفت على صديق من خارج الحي فعرفت من طريقه البقدونس . رأيته يضعها في ساندويتش الفسحة . ظننتها في البداية جرجيرا ثم تبيّن لي أنها كزبرة ، و حين سألته عنها طلبا لليقين أوضح لي أنها بقدونس و أنها تختلف عما نعرفه نحن أهل البادية بحكم أنّا حديثو عهد بالتمر و اللبن ، ففهمت أنّه يعرّض بي و يسخر من جهلي . و فيما يشبه التحدّي الوجودي و الانفتاح على البقول و الخضروات قررت أن أشقّ طريقي بنفسي و ألا ألتفت إلى كل المألوفات و المعلوفات لأبدأ في إثارة الأسئلة حول كل ما يحيط بي من الفواكه و الخضار . في جانب الفواكه بدا كل شيء يحمل طابع اليقين عدا أزمة لا تذكر تجاوزتها .كانت في التفريق بين الليم و الليمون ، لكن ذلك لم يدم طويلا ؛ إذ تعرّفت سريعا على البرتقال أبو صرّة الذي حسم المسألة في جانبها الوجودي ، على الأقلّ فيما يخصّ الحمضيّات . أما قلقي الأعمق في جانبه البقولي و الورقي ، فاستمرّ معي إلى وقت متأخر ، إذ تبدو لي الورقيّات ذات جينات مشتركة ، و هذا بطبيعة الحال عمّق لديّ سؤال الوجود فازدادت لهذا السبب حيرتي و ازداد هروبي من مواجهة الذات في هذا الجانب بالذات ؛،حتى إنني صرت حين أدخل محل خضار أعرض عن ركن الورقيات كي لا تقع عيني بالصدفة على البقدونس .

ظل هذا السؤال يلاحقني حتى بعد النهضة و الانفتاح الثقافي على العالم الآخر ، إذ بعد الثورة الصناعية – تحديدا مع تحول العالم من ذاكرة الكتابة إلى ذاكرة الصورة – صار بوباي مثلا يمثّل لي البقدونس في هيئة الرجل الغربي .

كنت حين أراه يخرج السبانخ في معركته مع الرجل الملتحي أطرح الأسئلة تباعًا : ما علاقة السبانخ بالبقدونس ؟ ما سبب إخراجه لها وقت اختطاف زيتونة من الرجل الملتحي ؟ . لماذا تكبر قبضته فور ابتلاع علبة السبانخ ؟ أسئلة كانت تؤرقني حتى اضطررت إلى التجربة بنفسي حين طبخت ورق السبانخ و التقمتها في الحال .

انتظرت تغيّرا بيولوجيّا يحدث لقبضتي اليسرى فلم أظفر بعد الانتظار بشيء ذي بال . قلت في نفسي : لعلّ لغياب زيتونة أثرا في تعطّل قواي و عدم استجابتي لطبخة السبانخ . و خطر في بالي أن لغياب الغليون أثرا أيضا . هنا بدأت أراجع علاقتي مع زيتونة و الغليون معا . فيما يخصّ زيتونة أدركت بالفعل أنها خارج ذاكرتي و أنّه لكي تحدث السبانخ أثرا في قبضتي عليَّ أولا أن أحضر زيتونة في الذاكرة ، فثمة علاقة طردية عكسية بين حضور زيتونة الأنثوي و قبضتي الذكورية .. هكذا تخيّلت العلاقة في فضاء مشترك نحضر فيه أنا و زيتونة و السبانخ في دائرة مكتملة الملامح . أما ما يخصّ الغليون فبدا لي حضوره الكثيف في ذاكرتي يحجب كل ماله علاقة بالعالم المحسوس و هذا وحده كاف لتحقيق الكينونة الدخانية خارج كينونتي التي لا يزال قلقها الوجودي مغروسا في تربتها الخصبة . في مرحلة متأخرة من مرحلة الشباب حدث ما لم أكن أتوقعه ، إذ بعد انفتاحي على الورقيات لاحظت أن أزمة التفريق بين الكزبرة و البقدونس تعود جذعة من خلال الخسّ و الملفوف .

هل هما شيء واحد ؟ و أيهما تطوّر عن الآخر؟ ، هل انبسط الخس بعد انقباض ؟ أم انقبض الملفوف بعد انبساط ؟ أعادتني هذه الأزمة الجديدة إلى أزمتي القديمة مع البقدونس ، فقررت أن أحسم المسألة في جانبها الوجودي و أواجه كل الأسئلة الوجودية بذاكرة بيضاء لم تخضرّ بعد ، و أن أعود إلى البراءة الأولى فيما يخص الورقيات ، أي من قبل أن أتعرّف على الكراث و الجرجير ، بدءا من اللبن و التمر اللذين يمثّلان ، رمزيّا ، العالم قبل التلوين !.

سعود الصاعدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى