لا نأتي بجديد عندما نقول : إن الحضارة هي ثمرة جهد الإنسان بما تعنيه الكلمة من معنى بمفهومها الواسع, وما نعنيه بكلمة (مفهوم واسع) بالضرورة هو مفهوم فلسفي؛ لأن كلمة فلسفة تعطي معنى أكبر ورؤية أشمل لتقري العديد من النتاج الحضاري على مستوياته المختلفة الفنية والفكرية ومظاهره المتعددة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ففي الوقت الذي نرى فيه -وللأسف- من يعتقد أن الحضارة العربية والإسلامية تنحصر حول الجوانب الفنية وتحديدا في فن العمارة, وأن نماذج البناء الأندلسي هي التي تدلل على قوة تلك الحضارة؛ فإنه من المؤكد عند حصرها في هذا المفهوم الضيق فإننا نتراجع عن الخط المتقدم فضلًا عن تبوء الصدارة. وهو خطأ جسيم نربك به رؤية الأجيال المتطلعة إلى الحضارة بكل أبعادها وتعدد منجزها منذ طلائع فجرها المشرق. وهذا الإرباك من وجهة نظري له بعدان. إما جاهلون بآفاقها ومنجزاتها, أو متجاهلون وعامدون بذلك للفت الأنظار إلى فن العمارة والزخرفة والنقش في محاولة جادة لإدهاش الناس بأبعادها الفنية والجمالية ليس إلا.
ويبرر منهم ذلك بأن الهدف هو الارتقاء بذوقيات الناس ومعرفة الحياة الباذخة والأماكن المخملية حينما كانت الحضارة العربية والإسلامية في أوج ازدهارها. وبهذا التبرير بالمطلق لا أرى لهم منطقًا فيه ولا أراهم محقين به. فهم بذلك غير آبهين بما جاءت به من علوم ومعارف, ولا مستشعرين الدور الحضاري الذي تبوأته حضارتنا؛ وهذا لاشك تقهقر ونكوص وعكس توجه الحضارة نفسها, وهي غاية ضيقة تقصر بكثير عن الأهداف التي جاءت بها ومن أجلها.
إن ذلك القصور معلم واضح ليس لنا فيه أي جهد مالم نقدم بعض الآراء والبحوث والدراسات؛ لنستجلي من خلال ذلك حقيقته الهندسية وأبعاده الفنية وأنساقه الجمالية؛ لأن الناس ليسوا على مستوى واحد في خبرتهم الجمالية, فالشيء المُدرَك يظل حاضرًا للمدرِك, ولكن يبقى على مسافة؛ مما يتطلب فطنة تذاهنية لخلق تساؤلات بشعور واعٍ. وهو الأمر الذي نؤكد عليه كون البعض يجهل في ذلك جوانب مختلفة واتجاهات متعددة, وهنا يكمن دور المثقف .
ولعلي لا أجزم أن أبعد ما يصل إليه زائر الأندلس, بعد عنا السفر, ومشقة الرحلة, هو أخذ صورة فوتوغرافية أمام قصر الحمراء بغرناطة, ويجعل منها هدفه الأسمى. الأمر الذي يؤثر على تصورات الآخرين لاستشراف الآفاق البعيدة لهذه الحضارة بعد أن كرّس لديهم انطباعًا بسيطًا حدّ الفتور اهتم بالمسائل الشكلية والمظهرية دن تعليل؛ وبالتالي فانه وعلى المدى المنظور سيؤثر ذلك على ثقافة الناس وعلى وعيهم, وبالتالي على طريقة رؤيتهم التي ستظل تتمحور حول الظاهر من ملامح فنية مهنية صرفة دون أن تتجاوز ذلك إلى نظرة فاحصة لمعرفة ماهو أعمق؛ ليُرى كل منجز في حضارتنا العربية والإسلامية بما فيها البعد الجمالي.
وفي ملمح آخر حول الحضارة العربية والإسلامية هناك من يتغنى بأمجاد الماضي ويندب حظه العاثر على حاضره الذي ملأه بالبؤس والحسرة في صورة مشينة أشبه ما تكون بجلد الذات. وفي هذا نكون أنا قد أدرنا الظهر عن الحاضر وأغفلنا الدور المناط بنا تجاه المستقبل. فمحطات الماضي المشرقة هي الطاقة التي نستلهم منها قوة دافعة لحاضرنا دون الثبات عليها في انطلاقة فاعلة نحو آفاق عليا تقود إلى المعارج والعلو من خلال فكر نيّر جاء به الإسلام حاثًّا على العلم والمعرفة على مبدأ ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) والذي يجب أن ننطلق منه بكل قوة إلى المستقبل دون التباكي على ماضٍ لن يعود على الإطلاق.
إن الحضارة العربية والإسلامية تميزت من غيرها و اتسمت بعطاءات مختلفة, فقد غذّت الإنسان بجوانب فكرية وروحية وأخلاقية, وتعاملت مع الإنسان بوصفه إنسانًا ومستخلفًا في الأرض. وإن الإسلام الذي جاء بالحضارة هو مشروع حياة, الأمر الذي ميزها من بقية الحضارات, بل و أصبحت مصدرًا أساس للحضارات اللاحقة.
جماع القول إن الحضارة العربية والإسلامية ميدانٌ عريضٌ وعريقٌ, وفيها ثقافات متباينة واتجاهات فكرية متعددة وعلوم ومعارف مختلفة, وهذا ما يستدعي الدراسة والبحث في كل ميادينه واتجاهاته, وهو ما نتمناه.
وإلى لقاء,,,,
عوضه بن علي الدوسي
ماجستير في الأدب والنقد