في عام 1958 زار الزعيم إسماعيل الأزهري – رحمه الله – مدرسة “بيت الأمانة” الوسطى بأمدرمان جوار الإذاعة السودانية، وكان مديرها حينها عبيد عبد النور – رحمه الله – وألقى الأزهري كلمة للطلاب بمناسبة الاحتفال بيوم الآباء، وكان من ضمن ما قاله لهم:
– يا أولادي! لا سيِّد ولا مسيود، إلا الواحد المعبود!
قال راوي القصة: كان الأزهري أول من سمتعه يتحدث عن التوحيد!
*****
وفي ليلة سياسية في ذات العام في منطقة “عديد أبو عشر” بالجزيرة ألقى الأزهري كلمة، وقال فيها:
– لا سيِّد ولا مسيود، إلا الواحد المعبود! الكهنوت مصيره الموت!
فجاء رجل كبير في السن من خلف الحضور ووقف أمام الأزهري، وفي يده عصا وقد ربط على ساعده سكّيناً على عادة بعض القبائل، ونظر إلى الأزهري في غضب وصاح:
– تسقط يا أزهري.. وتسقط حكومتك!
فقال الأزهري بكل هدوء ورحابة صدر وقد علت وجهه ابتسامة:
– أسقطُ أنا.. وتسقطُ حكومتي.. وتعيش إنت يا أبوي رافع الرأس، لا تسجد ولا تركع ولا تطأطي رأسك إلا لله.
فصمت الرجل، وعاد أدراجه دون أن ينبس بكلمة!
*****
هذان الموقفان المؤثران اللذان سمعتهما من الشيخ السر أبو زيد – حفظه الله – الذي كان شاهد عيان عليهما، إذ كان حينها طالباً في مدرسة “بيت الأمانة”، وكان حاضراً لتلك الليلة السياسية، وضعا كثيراً من النقاط على الحروف بالنسبة إليَّ؛ فقد كنت أتساءل عن سرِّ محبة الشعب السوداني لهذا الزعيم الكبير الذي خلَّده التاريخ، وعن سر هذه الجاذبية والكاريزما التي تميَّز بها، فكان أن أدركت السبب أخيراً!
*****
إن قوة تأثير الأزهري وكونه أحد صُنَّاع استقلال السودان وصفات التواضع والأمانة والنزاهة التي اشتُهر بها لم تأتِ عن فراغ، بل لكونه موحِّداً لله عزَّ وجلَّ، لا يذلُّ نفسه ولا يخضعها إلا لخالقه سبحانه، سما بنفسه عن اعتقاد النفع والضر في غير الله تعالى كائناً من كان، فهو يعلم أن ما أصابه ما كان ليخطئه، وما أخطأه ما كان ليصيبه!
*****
الآنَ أدركتُ سرَّ محبة كثير من السودانيين للأزهري رحمه الله، وما ذلك إلا لأنه وحَّد الله تعالى وأطاعه، فأحبه الله جلّ وعلا، وكتب له المحبة في قلوب الناس؛ لأنه وحْدَه سبحانه من يقلِّب القلوب، وإذا أحب الله عبداً كتب له القَبول في الأرض كما في الحديث. نحسبه والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحداً.
*****
وحين ذكرتُ هذا الموقف لأحد أصدقائي قال لي في سعادة غامرة، كمن وجد شيئاً كان يبحث عنه طويلاً:
– الآنَ عرفت لماذا كان قريبنا عبد القادر العاقب حاج سعد – رحمه الله – موحداً، يقطع بسكينه كل حجاب أو تميمة وجدها معلّقة على يد أحد أو على عنقه، ولا سيما الأطفال، ويقول: لا تربوهم على مثل هذه الأشياء!
كان عبد القادر رحمه الله موحداً في زمن انتشر فيه دعاء الأموات، والاستغاثة والتوسل بهم، والتبرك بقبورهم، والذبح والنذر عندهم، وطلب الذرية والمفقودات منهم! وغيرها من العبادات التي ينبغي ألا تصرف إلا لله تعالى.
وكان أن ختم صديقي قوله بابتسامة واسعة وهو يقول:
– نعم! الآنَ عرفت! لقد كان عبد القادر موحِّداً؛ لأنه كان صديقاً للأزهري الموحِّد!
*****
ولهذا لم يكن مستغرباً على الأزهري أن يضرب أروع الأمثلة في النزاهة والأمانة، ولا أدلّ على ذلك من وفاته وبيته مرهون لدى البنك، وعجزه عن سداد شيك بقيمة مائة جنيه؛ لأن حسابه لا يحوي المبلغ الكافي! وحرصه على أموال الدولة؛ لدرجة أنه يحاسب نفسه على قلم رصاص اشتراه من خزينتها!
*****
وهذا الفعل لا يمكن أن ينجم إلا عن رجل موحِّد أنار الله بصيرته، وثيق الصله بخالقه جل وعلا، يراقب ربه سبحانه وتعالى في سرِّه وعلنه، لا يخشى سواه، ولا يتوكل على غيره.
*****
فما أحوجنا لأن نبرز هذه الجوانب المشرقة لدى زعمائنا وقادتنا وقدواتنا الأفذاذ التي تؤكد تعلقهم بالله عزّ وجلّ واتصالهم به سبحانه؛ حتى نقدِّم للأجيال القادمة نماذج تُحتذى، يسيرون على دربها، ويقتفون أثرها.
رحم الله الزعيم الفذّ الموحِّد إسماعيل الأزهري، وطيّب ثراه، وجعل البركة في ذريته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
علي صالح طمبل