أ. د. عائض الزهراني

التسامح منهجية دين (1-2)

عندما أنشأ الإسلام حضارته، لم يضق ذرعًا بالأديان السابقة، بل اتسع صدره للأديان الأخرى، ولا يتعصب ضدها ولا يطرد غير المؤمنين به، من ساحة العمل بل يعطيها حق الحياة، وظل هذا التسامح، منهجية دين، وشرعة حضارة، على مدار تاريخنا وانتهجنا هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تسامحه الديني، ذي النزعة الإنسانية الرفيعة .. وتعزيز التعايش السلمي، بين الأمم، ويكتسب التسامح أهمية خاصة، إذا كان على هؤلاء الذين يحملون قناعات دينية، وأيديولوجية وسياسية مختلفة، أن يعيشوا معًا في مجتمع تعددي.

فالتسامح الديني تنبع أهميته، من كونه ذا بعد وجودي ضرورة الوجود نفسه، وهذا التنوع بين الناس، يمثل ضرورة اقتضتها الفطرة الإنسانية، يقتضي التعايش، لا التصارع، والتعارف، لا التناكر، والتعاون، لا التطاحن، والتكامل، لا التعارض، فقد أشار القرآن إلى ضرورة هذا الاختلاف النمطي (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ). ولذلك فالتنوع، والاختلاف، حكمة عليا فهو تنوع في الطبائع، والأمزجة والمواهب، والميول، والمؤهلات، والطموحات، يمثل ثراء وخصوبة وتلاقحًا يحفز على قيام الحضارات وعمران الأرض.

إن التسامح الديني يقتضي الاحترام المتبادل، ويقر الاختلاف، ويقبل التنوع، ويعترف بالتغاير، ويحترم ما يميز الأفراد، من معطيات نفسية ووجدانية وعقلية ويقدر ما يختص به كل شعب من مكونات ثقافية، امتزج فيها قديم ماضيه، بجديد حاضره، ورؤية مستقبله، ويعتبر ذلك سبب وجوده وسر بقائه، وعنوان هويته، ومبعث اعتزازه .. وقيمة التسامح الديني تتمثل في كونه يقتضي المساواة في الحقوق، والتسليم المطلق، بعدم المساس بخصوصيات الآخرين الثقافية، ويستوجب الاحترام المتبادل، ويستلزم التقدير المشترك ويفرض التعامل في نطاق الدائرة الموضوعية دون المساس بدائرة الخصوصية؛ لذلك شيد الإسلام، حضارة مشرقة، لها ثراء تراثي ومعنوي بريادة وقيادة مكتملة الأسس والبناء، اتكأت على العقل، واستأنست بالنقل، أضاءت العالم بالمعرفة، وارتقأت بالآداب، وتألقت بالفنون، وأثرت الفكر والفلسفة، رصدتها كتب التاريخ، والتراث، ونستشهد بنص مضيء لروح التسامح، لخلف بن المثنى: “لقد شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يعرف مثلهم في الدنيا علما ونباهة، وهم الخليل بن أحمد صاحب النحو (وهو سني)، والحميري الشاعر (وهو شيعي)، وصالح بن عبد القدوس (وهو زنديق ثنوي)، وسفيان بن مجامع (وهو خارجي صفري) وبشّار بن بُرد (وهو شعوبي خليع ماجن) وحمّاد عجرد (وهو زنديق شعوبي)، وابن رأس الجالوت الشاعر (وهو يهودي) وابن نظير المتكلم (وهو نصراني)، وعمر بن المؤيد (وهو مجوسي) وابن سنان الحراني الشاعر (وهو صابئي) كانوا يجتمعون، فيتناشدون الأشعار، ويتناقلون الأخبار، ويتحدثون في جو من الود، لا تكاد تعرف منهم، أن بينهم هذا الاختلاف الشديد، في ديانتهم ومذاهبهم. (ومضة) في السابق، كنا عظماء الأمم، والآن، نحن عظام الأمم،

أ.د عايض بن محمد الزهراني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى