المقالات

دعوة الأمير خالد الفيصل

استجابة لدعوة مستشار خادم الحرمين الشريفين، أمير منطقة مكة المكرمة سمو الأمير خالد الفيصل-حفظه الله- لكل المواطنين بالمساهمة في المشروع الثقافي والفكري الذي أطلقه يوم الأربعاء ٢٠١٦/١٠/٢٠ من مكتبه بجدة، وبحضور نخبة من الكُتاب والمثقفين وناشطي مواقع التواصل الاجتماعي، تحت شعار “كيف نكون قدوة“، أساهم بهذه الكلمات في هذا المشروع النوعي، الذي يُعتبر واحدًا من عدة مشاريع يوليها سموه عناية خاصة، منذ أن تولى إمارة منطقة مكة المكرمة، بدءًا باستراتيجية “بناء الإنسان وتنمية المكان”، التي جاءت موجهة لمشاريع المنطقة وحاكمة عليها، نحو البناء والتنمية.

وإيمانًا من سموه -حفظه الله- بالدور الريادي لإنسان مكة المكرمة، وتعظيمًا لها، فإن مشروع “القدوة” الذي يصبو إليه لا يخرج عن ذات الاستراتيجية، وبذا يكون المكان نطاق المشروع والساكن له فاعل فيه، وحقيقةً أن مشروع “القدوة” جاء في حينه، وعلى غرار مشروع “هوية مكة” الذي هو الآخر جاء مواكبًا لضرورات المرحلة ، وحلًا -إن دُرس بحقه- لكثيرٍ من التعقيدات الفكرية والثقافية في المجتمع.

وفي الوقت الذي يتطلع فيه سمو الأمير للبناء والتنمية، بكل عمقٍ وشمولية، نجد أن الكثير منا يتلقى الأمر ببالغ السطحية والرتابة والإغراق في المفاهيم الجزئية والفرعية، وليس “القدوة” عن هذا التلقي ببعيد.
إن “القدوة” و “الهوية” ذات طابعٍ خاصٍ ولهما أهمية بالغة يجدر بنا أن نتلقاهما تلقيًا نوعيًا، تلقيًا راشدًا يفك أسرهما من سجون الضيق والتحيز و”الأنا”، ويسمو بهما عن عتمة الزوايا ودوائر الشك وتعقيدات الواقع، سموًا ينسجم ومكانة مكة المكرمة السامية.

وليس سرًا أن الحروب الدائرة بكل أشكالها وصورها في الواقع الإسلامي، هي نتاج لخللٍ وتشوهاتٍ في بناء المفاهيم، وهذا يحملنا مسؤولية التلقي الواعي والدراسة الراشدة المتضمنة للحلول الفكرية والثقافية لحل تعقيدات الواقع.

وحقيقة أنني تابعتُ بكل اهتمامٍ وشغفٍ مقالات السادة والسيدات في مشروع “القدوة” سواءً ما كان ليلة إطلاق المشروع أو ما تزامن معه وبعده بأيام وأسابيع، فلم أجد حديثًا يقدم لنا مفهومًا يخرج عن عباءة التكرار والتجاذب الذي لا يقدر لخصوصية المكان قدرها، ولا لمتطلبات بناء الساكن فيه وفق سننه وقانونه، سوى مقال قراءته للدكتور زياد الدريس كان أمثل السادة والسيدات طرحًا -من وجهة نظري- وأقربهم للروح المكية، مع بالغ تقديري واحترامي لكل أصحاب الفضيلة والسعادة المتحدثين والمتحدثات والكاتبين والكاتبات.

إن مكة المكرمة ذات خصوصية دينية ولها خصائص مكانية تجعلها المكان الأمثل لسُكنى الإنسان ومعايشته للإنسان الآخر، وكل مفهوم يتفرّع عنها ولا يُدرس وفق خصوصيتها لترسيخ خصائصها، هو عقوق وجناية بالمكان والإنسان على حدٍ سواء، سيّما أن الإنسان مجبول على التضييق والتحيز والانزواء إلى دائرة انتمائه الأضيق، وبهذه الجبلة المقيتة كان العقوق والجناية في تضييق ما وسّعه الله، والسعي إلى التفرد بما أشاعه الله.
إن مكة المكرمة سعة لا تقبل الضيق، وحرم لا يستحله التحيز والتحقير، وحرة لا يسبيها الإقصاء والاختزال والانتقاء، وكل ما يتفرع عنها، فهو تابع لها، وحامل لخصائصها وخصوصيتها.
إن مكة المكرمة محضن الإنسانية، ومأرز الإيمان، وحماها الله يوم حماها لتكون حمى الله وحده لا شريك له أيًا كان ذلك الشريك، صنمًا أو هوى أو صنمية فكرية أو ثقافية تتخذ لها من عباد الله نصيبًا مفروضًا، وتذر البقية الباقية شيعًا يقتل بعضهم بعضًا.

إن مكة المكرمة قبلة الإيمان ومأرزه، وحمى الإنسان ومأمنه، وكما كانت الحبشة مهجرًا لهجرة المؤمنين يوم لم يكن لهم مهجرًا سواها، لإنسانيتها المتناهية التي لا يُظلم أحدٌ فيها، فإن مكة شرفها الله يجب أن تظل قبلة الإنسانية، وحمى الله للمؤمنين، وصمام الأمان في أرض الله، وأن نمحو بإنسانيتها السامية كل التحيزات الوصفية والمحددات الأنانية والتوهمات العرقية والمذهبية، بأن نجعل كل المفاهيم المتفرعة عنها والمضافة إليها تبعًا لها، وأن تظل “القدوة” و “الهوية” -على سبيل التمثيل- في عباءة إنسانيتها ولا نسمح لأحد أن يرتكس بهما في مفاهيم ذاتية أو لظروف ونطاقات زمانية ومكانية خارج نطاقها، وإلا ستصطدم كثيرٌ من المفاهيم بواقع ومشاهدٍ عبثية ومحبطة.
وأن لا نمنح وصف القدوة المطلقة إلا لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، فهو المثل الأعلى والأسوة الحسنة، وليس لأحد سواه أن يكون قدوة إلا على سبيل التقييد بحالٍ دون حال أوبالنسبة لصفة دون غيرها، وأن يستوي عباد الله في السعي إليها، والدعوة لها، وأن يقترن بها الأنقى إنسانية، والأرجا لله.
وأن تكون القواسم المشتركة لكل المفاهيم المتداولة عن مكة المكرمة متضمنة لثلاثة أركانٍ رئيسة هي : (التعارف-التشارك-التعاون) وهذه الأركان الثلاثة هي في ذاتها الأوصاف المحققة لغاية تعدد قبائل الإنسان وشعوبه وتنوع مشاربه وسعيه، والتي من شأنها أن تعطينا المسؤولية الثقافية والفكرية الفاعلة المحرّكة للإيجابية الفردية، وأن تمنحنا الالتزام الأخلاقي والاجتماعي المنسجم وقدسية المكان، إزاء البشرية جمعاء والكون بأسره.
وبهذا التوجيه لمفهوم القدوة، نكون في بناء تهذيبٍ إنساني فريد. نتمكن به من العيش داخل مجتمع مدني تتحقق فيه كل صور القدوة الفاعلة والمحققة لوجودٍ إنساني نبيل، عارٍ من كل التحديدات المذهبية، والتحيزات العرقية والآيدلوجية المختلفة.
ومن هنا تبدأ القدوة في التبلور ضمن مفهوم إنساني يساهم في إثراء النسيج المجتمعي، لينتهي به الحال إلى وعي إنساني يسمو بالتعددية والتنوع والاختلاف.

في حين أن المغامرة بالتقريب المفاهيمي “للقدوة” خارج إطارها الإنساني النبيل، قد يفضي بها إلى نتائج سيئة، تزداد سوءًا كلما ازداد المجتمع تنوعًا واختلافًا، كما هو الحال أيضا في تناول الهوية المكية خارج إطارها الإنساني الشامل لكل شكول التنوع والاختلافات متعددة الأعراق والمشارب .
خالد بن سفير القرشي

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى