لا تستغربوا إذ علمتم أن أمهاتٍ كثيرة في قطاع غزة لا يجدن ثمن الحليب لأطفالهن، ولا اللاهيات الكاذبة لصغارهن، ولا السرير الصغير الذي فيه يهدهدن أطفالهن ليناموا، ولا يوجد عندهن ما يكفي من الثياب لهم، ولا ما يشترون به الجديد بما يناسب سنهم ويولائم حجمهم، وليس عندهن ما يمكنهن من العناية بصحة أطفالهن، ومعاينتهم شهرياً للوقاية من الأمراض أو علاجهم منها.
كثيرةٌ هي الأمهات في قطاع غزة اللاتي يبكين عجزهن ومعاناة صغارهن الذين لا يشعرون بما تعاني منه أمهاتهم، في الوقت الذي لا يجدن فيه من يمد إليهن يد العون والمساعدة، إذ أن المجتمع كله يعاني، والأسر في أغلبها تشكو، ولا يوجد من البيوت المستورة إلا القليل، والمؤسسات التي ترعى حالتهن وتهتم بشؤونهن قليلة العدد، ومحدودة القدرة، وتعوزها الإمكانيات، وتعاني من الحصار وضيق ذات اليد.
وصدقوا إذا سمعتم أن طلاب الجامعات وطالباتها، والعمال والموظفون وأصحاب المهن والحرف، يخرجون من بيوتهم فجراً أو في الصباح الباكر، قبل ساعاتٍ من تعالي شمس النهار مشياً على الأقدام، فرادى وجماعاتٍ، أو يستخدمون الدراجات النارية، التي يستقلها غالباً أكثر من طالبٍ، الأمر الذي تسبب في وقوع حوادث طرقٍ كثيرة، قتل فيها عددٌ من الطلاب، نتيجة السرعة الزائدة أو العقبات المفاجئة، أو الضباب الكثيف الذي يتشكل في الصباح الباكر، فيعيق الرؤية ويتسبب في حوادث مرورية كثيرة، ورغم ذلك فإن الطلاب يضطرون إلى هذه الوسيلة لعدم وجود القدرة على استخدام أخرى بديلة، وإلا فإن عليهم الاعتماد على أقدامهم أو الاعتذار والامتناع عن الدراسة، هذا بالإضافة إلى الرسوم والأقساط الجامعية التي لا يقدر عليها القادر، ولا يستطيع أداءها المستطيع، فكيف بالمعدمين الفقراء، وعامة الطلاب البسطاء.
أما الحوادث الاجتماعية السيئة بسبب الفقر والحاجة وضيق ذات اليد فهي كثيرة، وقد يصعب حصرها ولكنها تتكرر كل يومٍ، وتقع في كل مكانٍ من قطاع غزة، وهي حوادث مدانة ومرفوضة ومستنكرة، ولا تبرير لها ولا دفاع عنها، ولكننا نبينها هنا في استعراضنا لأحوال القطاع البئيسة، إذ نسمع عن جرائم قتل المسنين والمسنات التي يلجأ إليها بعض الشباب المنحرفين والشاذين أحياناً، وحوادث الاعتداء على تجار الذهب والعملة وأصحاب محال الصاغة عموماً، وقد ذهب العديد من هذه الفئات ضحايا الفقر والحاجة خلال محاولات السرقة أو الحصول على بعض الأموال، علماً أن حصيلة بعض الجرائم من السرقة كانت بسيطة جداً.
وفي الجانب الآخر فإن هناك حوادث انتحارٍ وقتلٍ للنفس عديدةٍ، للتخلص من ضيق العيش وصعوبة الحياة، في ظل البطالة وقلة فرص العمل، وتدني الأجور الشهرية وعدم كفايتها وتأخرها أحياناً، أو بسبب العجز عن بناء مسكنٍ جديدٍ أو إصلاح وصيانةِ قديمٍ مدمرٍ، أو تهيئة بيت الزوجية بعد طول خطوبةٍ وتعذر الزواج، أو لعدم القدرة على الزواج أصلاً لانعدام القدرة على دفع المهر وتجهيز العروس، أو نتيجة الأمراض المزمنة التي لا علاج لها، ولا قدرة على السفر للشفاء منها، في ظل حالة الحصار المطبق على القطاع من جوانبه الأربعة.
أما حالات الاكتئاب النفسي والانطواء على الذات والحزن فهي كثيرة، ويعاني منها الكثير من السكان، ممن لا يستطيعون إخفاء حزنهم، أو التعالي على جراحهم، عندما يدركون أن الواقع أصعب منهم، والظروف قاسية عليهم، والفرص المتاحة أمامهم ضئيلة، والآفاق المنظورة معدومة، ولا أمل في تحسن الأحوال والنهوض بالحقوق والالتزامات، فلا يجدون للخروج من مآزقهم العملية إلا الفرار والابتعاد، والانزواء والانطواء، وإن كان هذا الأمر لا يشكل حلاً ولا يعجل في علاج المشكلة.
وفي ظل مناقشتنا لهذه الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة، لا نكذب ولا نكابر، ولا نتجمل ولا نتزين، بل نظهر الحقائق كما هي، ونكشف عنها ولو كانت قاسية ومؤلمة، إذ أدت هذه الأزمة إلى جنوح بعض الشباب إلى المخدرات والمسكنات، حيث انتشرت حبوب الترامادول التي غزت القطاع بقصدٍ وتخطيطٍ سيئٍ ومدروس، إذ أنها تقتل الهمم، وتقضي على الشباب، وتعطل القدرات، وتزيف العقول، وتمرض الأجساد وتوهن القوى، وتشطب مع الزمن قطاعاً كبيراً من فئة الشباب الذين هم فينا الأمل ومحط الثقة والرجاء.
كما لا أستثني ولا أنسى حالات الطلاق وتفسخ الأسر وهدم البيوت العامرة، حيث يتسبب الفقر في وقوع حالاتِ طلاقٍ كثيرة، قد لا يكون مبعثها عدم الانسجام وكثرة الاختلافات، بقدر ما يكون الفقر والجوع، والحاجة والعجز الذي هو السبب المباشر في وقوع حالات الطلاق، التي تهدد الأسر الشابة، وغيرهم ممن مضى على زواجهم سنواتٌ طويلة، هذا بالإضافة إلى سلبيات قعود الزوج في البيت عاطلاً بلا عمل، الأمر الذي يجعل منه عصبياً دائماً، ومزاجياً في كل الأوقات، فضلاً عن تغير عاداته وتقاليده، واستبدال ليله بنهاره، حيث يطيل السهر ويتأخر في الاستيقاظ مبكراً، مما يؤثر على دوره في البيت كرجل ورب أسرة.
ليست مبالغة ولا هي تهويل، ولا هي محاولة لاستدرار العطف أو جلب الانتباه، ولا هي وسيلة للتسول والشحاتة وطلب العون والمساعدة، ولا لإظهار المسكنة وإبداء الضعف، ولا هي شكلٌ من أشكال إدانة العدو وتحميله المسؤولية، أو هي وسيلةٌ لإظهار المظلومية وتبرير الشكوى والثورة، كما أنها ليست كذباً وخداعاً وزوراً وبهتاناً، وادعاءً كيدياً ضد السياسة والقيادة، ولا هي محاولة للتكسب والانتفاع، والطمع في الاستزادة والرغبة في الغنى، ولا هي ضيقُ عينٍ وتطلعٌ للآخرين، حسداً على ما عندهم، وحقداً على ما اختصوا به أنفسهم دون غيرهم، وهي ليست حالات خاصة محدودة ومعدودة، تخص عائلاتٍ دون أخرى، وتعاني منها فئاتٌ وتنجو من براثنها أخرى.
بل هي الحقيقة المرة التي لا تحتمل الكذب، والواقع المؤسف الذي لا يقوى أحدٌ على نفيه أو إنكاره، وهي الصفحة القاتمة في سوادها والمخيفة في حقيقتها وتداعياتها، والمحزنة في مظاهرها وأشكالها، والمقلقة في عمقها وانتشارها، والمخزية في ضمير العالم ووعيه الإنساني، والتي لا يستطيع أحدٌ أن يخفيها أو يخفف من وطأتها ويقلل من مأساتها، رغم أن البعض يحاول بقصدٍ أن يقلل من شأنها، ويتعمد أن يجردها من حقيقتها القاسية، إلا أن هذا الفريق سرعان ما ينهار أمام الحقائق الرقمية، والبيانات العلمية، والشهادات الحية، والروايات الشخصية التي ينقلها أصحابها ويرويها المعذبون بمرها، والمقاسون آلامها، والقابضون على جمر نارها المتقد، وهم قطاعٌ كبيرٌ من سكان قطاع غزة، الذي تتكسر نصال أبنائه، لضيق أرضه وفقر أهله ومعاناة سكانه، على بعضهم البعض.
د. مصطفى يوسف اللداوي