د. موسى آل هجاد الزهراني

توحُّد!

سهامٌ ناعمة

تقابل شخصًا عزيزًا أو غير عزيز فيلحُّ عليك أن تزوره في بيته فتقبل راغبًا أو مُحرجًا، ثم إذا استقر بك المقام في مجلسه تُفاجأُ ببرود الاستقبال وبرود الأحاديث في المجلس؛ لأنه هو وجلساؤه مشغولون بالنظر في (الجوال)، فكأنك دخلت عالمًا من الصُّم والبُكم الذين سمَّروا أعينهم في شاشات الأجهزة وتركوك بائسًا يائسًا، ترى أحدهم مرة يبتسم، ومرة يضحك، ومرة يعبس، ومرة ينفخ! كل ذلك وهو لا يرفع رأسه. وليس أمامك إلاّ أن تقول: يا فلان، أستأذنك! وفرصة طيبة. ثم تنصرف كئيبًا تتحسر على تلبيته الدعوة، وتأسف على مجالس أيام زمان!.

ولا تسلم اجتماعاتُنا الرسمية أيضًا ومؤتمراتُنا من مثل هذه الأمور، فالباحثُ، أو الدكتور، صغيرًا كان أم كبيرًا؛ يتعب في إعداد بحثٍ يقدمُه (ورقةَ عملٍ) في مؤتمرٍ لا يُصغي إليه فيه إلا جدرانُ القاعة في الغالب أو الكاميرات التي أمامه ومكبراتُ الصوت، ثم يُلملم أوراقه ويعود إلى مقعده بعد أن نافقه الحضور الغائبون الحاضرون بتصفيقٍ باردٍ إعجابًا بما يظنون أنهم استفادوا منه شيئًا.

وإذا ما دخل الإنسان منا بيته بعد طول غيابٍ في عمله، فيكتشف أنه بين أصنامٍ في هيئة (أوأدم)! صغار، بنات وأولاد، يمسك كلٌّ منهم بهاتفه الجوال ويضع سماعاته في أذنيه، ويغيب عن الوعي، فتارة يتمايل مع أغنية، وتارة أخرى تجحظ عيناه بسبب مقطعٍ شاهده في جواله أذهب عقله!.
تنظر يمينًا وشمالًا لكي تجد أحدًا منهم تستطيع أن تحادثه، فتسمع بعض أخباره، فلا تجد إلا أناسًا كأهل الكهف أيقاظٍ رقودٍ.. فتلجأ للأم فإذا هي أيضًا مشغولة بما شُغل به الأبناء، فتُمسك أنت بجوالك لكي تغيب عن هذا الجو فترمقك العيون وتتقاذفك الاتهامات من كل جانب فيصيبك الذعر وتلقي بالجوال؛ وكأنك كنتَ تُمسك بين يديك بصنمٍ من أصنام قريش في الجاهلية اسمه (هُبَل)!
قد يفرّج الله عليك وعليهم، فتتفقون على سفرٍ يُجدد نشاطكم، ونفسياتكم، ويكون الاتفاق أن هذا السفر يكون (بالسيارة)؛ حتى تكون فرصةً عظيمة لتحسين العلاقات بين أفراد الأسرة!.

ثم.. ما إن تقرؤون أذكار الركوب( سبحان الذي سخّر لنا هذا ..) حتى تنظر إلى رفقاء الدرب فتجدهم مشغولين أيضًا بجوالاتهم، فتضطر إلى تقليب أزرار الراديو للبحث عن أية إذاعة جادةٍ أو سخيفةٍ تستعين بها على قطع مسافة الطريق، وتضمن في تحدٍّ أنك حتى لو جعلت صوت الإذاعة مرتفعًا فلن يسمعه إلا أنت؛ لأن الجميع يضعون في آذانهم وقرًا، سماعاتٍ دخلت في رؤوسهم حتى وصلت إلى الدماغ فلن يسمعوك!.

كنا فيما مضى نستعين في السفر (بعصا) نشتريها من أقرب محطة (وقود)؛ لكي نؤدب بها المزعج من الأولاد، ونجد مُتعة في التهديد بها من يستحق التهديد، أما اليوم فقد ذهبت لذة التهديد، وحلَّ محلَّها (توحُّدٌ) عجيبٌ خيَّم علينا، في سفرنا وإقامتنا!.

Related Articles

One Comment

  1. العالم الافتراضي…سبب لنا ولباقي المجتمعات أزمة تشويه وأخلاق ومعرفة في كيفية اختيار الأوقات والمنآسية في في هذا العالم الغريب الذي ضيعيشة أوقاتنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button