تعالت في الآونة الأخيرة موجة الدعوة إلى الخروج على الحكام والإطاحة بالأنظمة؛ بحجة أنها ظالمة، أو فاسدة، أو الاثنين معاً.
ولما كانت السياسية طاغية على حياة كثير من الناس – حتى قدّمها بعضهم على الدين – صار من يعارض دعوة الخروج على الحكام مصنَّفاً على أنه يخدم أجندة سياسية بعينها، أو من علماء السلطان، أو صاحب مصلحة؛ سواءٌ استدل بنصوص الكتاب والسنة أو لم يستدل!
وما إن يستدلّ عالم من العلماء بما جاء من الأدلة الصحيحة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام في عدم جواز الخروج على الحاكم إلا بشروط محددة؛ حتى يحاول بعض من غلبت السياسة على عقولهم أو تحكّمت فيها العاطفة أن يصنِّفه، أو يتهمه بتُهم مُغْرضة، أو يشكِّك في نواياه، أو يدّعي أن دعوته نشاز تغرِّد خارج السرب؛ ويتغاضى في المقابل عن الأدلة التي أوردها، ولا ينسب ما ذكره هؤلاء العلماء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل ينسبه إلى من نقله، أو إلى جماعة من الجماعات، أو تنظيم من التنظيمات؛ حتى يُفرغ الكلام من محتواه، أو يصرفه عن مقصده، أو يشتِّت الانتباه عنه، دون أن يحاول مناقشة ما جاء فيه، أو التأكد من مدى صحته وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم! لأنه يعلم أنه لو سلَّم بنسبته للنبي عليه الصلاة والسلام؛ فسيكون حينئذٍ حجةً عليه. وهذا المنحى الملتوي من أساليب المناورة والمراوغة التي لا تخفى على كل ذي عقل فطِن!
لكني أقولها بالفم المليان، ولا أبالي في ذلك بمن رضي أو سخط، أو بمن يقول بأننا نصادم رأي السواد الأعظم من الشعب؛ فالحق لا يعرف بعدد المتبعين له، والله تعالى خالق البشر هو الذي قال عنهم: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام: 116]، أقول مستعيناً بالله: إنَّ عدم الخروج على الحاكم المسلم ليس موقفاً سياسياً يتغيَّر بتغيُّر الحكام والأنظمة، ولا يمثِّل رأي تنظيم معيّن أو جماعة بعينها يمكن أن يتغير بتغير الآراء والمواقف، وليس مبدأً فكرياً يمكن التنازل عنه، ولا مصلحة عابرة تزول بزوال هذا النظام أو غيره؛ كما يحاول البعض تصويره، بل هو منهج ثابت لا يتبدَّل ولا يتلوَّن؛ لأنه نابع من ديننا الحنيف الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الدين الذي يدين به كلُّ مسلم يحتكم إلى قول الله جل وعلا وقول رسوله عليه الصلاة والسلام، ويستسلم لأوامرهما تمام الاستسلام؛ تعبداً لله تعالى (ومن هنا جاءت تسمية المسلم)، ولا يقدِّم قول كائن من كان على قولهما. قال تعالى مخاطباً عباده المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات: 1]، وقال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
كما أن الخروج على الحاكم قد ثبت فشله شرعاً وعقلاً، شرعاً لمخالفته للأحاديث الصحيحة الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهي تربو على مائة حديث، نذكر من بينها خمسة فقط لضيق المجال؛ فطالب الحق يكفيه دليل واحد، أما طالب الهوى فلا يكفيه أن تحشد له ألف دليل! وهي أدلة واضحة بحمد الله تعالى وضوح الشمس في رابعة النهار، وكلها أحاديث من الصحيحين:
الدليل الأول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهَا سَتَكُونُ بَـعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُـنْــكِرُونَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الْـحَقَّ الَّذِي عَـلَيْـكُمْ، وَتَسْأَلُونَ الله الَّذِي لَــــكُم) رواه البخاري (3603)، ومسلم (1846).
الدليل الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: (شِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، قَالُوا: قُلْنَا يَا رَسُولَ الله، أَفَلا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟، قَالَ: لا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، لا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، أَلا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ الله، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ الله، وَلا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) رواه مسلم (1847).
الدليل الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام: (مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِر، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَــــاهِلِيَّـــــةً) رواه البخــــاري (7053)، ومسلم (1851).
الدليل الرابع: قوله عليه الصلاة والسلام: (دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ الله فِيهِ بُرْهَانٌ) رواه البخاري (7056)، ومسلم (1843).
الدليل الخامس: وهو حديث ينبغي أن يتأمل فيه ويتعظ به كل من يدعو للخروج على الحكام تحت راية عصبية أو طائفية، ويرفع السلاح في وجوه المسلمين: (مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِى يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلاَ يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِى لِذِى عَهْدٍ عَهْدَهُ؛ فَلَيْسَ مِنِّى وَلَسْتُ مِنْهُ) رواه مسلم (1848).
وقد ثبت فشل الخروج على الحاكم عقلاً من خلال الأدلة المنطقية والشواهد الواقعية، وبالنظر إلى المآلات، والمفاسد والمصالح، ودوننا ثورات ما يسمى بالربيع العربي التي انتهى أغلبها إلى دول مفككة الأوصال، أو دول تسيطر عليها أنظمة أسوأ من سابقاتها، فقد قامت الشعوب تحت تأثير العاطفة الجياشة بالإطاحة بالحكومات، ولكن الدائرة عادت لتدور عليها؛ فغرقت في الفوضى، وانعدم فيها الأمن، وتردّت الأوضاع السياسية والاقتصادية فيها إلى أسوأ مما كانت عليه، لتذهب أحلام الحرية والرفاه الاجتماعي أدراج الرياح! وكل هذا لأنها سلكت الطريق الخطأ للتغيير!
وإن الذين يشكُون من الظلم والغلاء وشظف العيش سيتمنون عودة هذا الوضع إذا سادت الفوضى وافتقدوا إلى الأمن؛ لأنه أفضل ألف مرة من وضع تُزهق فيه الأرواح، وتُسفك فيه الدماء، وتُنتهك فيه الأعراض، وتَشحُّ فيه المؤن والأغذية والأدوية، ويأكل فيه القوي الضعيف، ويجد فيه المجرمون والمتسلقون والسفلة المناخ مواتياً ليعيثوا فساداً في الأرض؛ فيوم واحد تحت حاكم – وإن كان ظالماً – خير من ألف يوم بلا حاكم!
ثم إن أغلب الذين ينادون بتغيير الحكام لا يملكون آلية لتغيير الأنظمة دون إراقة دماء أو إثارة فوضى، ولا يضمنون استبدال الحكام بمن هم أفضل منهم، ولا يستطيعون تجنُّب ذاتَ المسلسل الذي شاهدناه في الربيع العربي بأن تتربع على سُدّة الحكم أنظمة أفشل من سابقاتها، ودوننا في السودان ثورتان أطاحتا بحكومتي عبود عام 1964م، ونميري عام 1985م، ليهتف الشعب بعد مدة متحسراً على كلٍّ من الرئيسين: (ضيَّعناك وضعنا معاك)! وما زالوا إلى يومنا هذا يتحسرون على ذهاب عبود ونميري!
ثم كيف يستقيم شرعاً وعقلاً أن تطالب شخصاً أعزل بأن يطيح بجكومة مدججة بالسلاح ومزودة بالدبابات؛ ليدخل معها في صدام تُزهق فيه الأرواح، وتُسفك فيه الدماء، وهل تستطيع حمايته حينئذ أم أنك ستكتفي بالفرجة أو الاستنكار والشجب في أحسن الأحوال، كما حدث في أحداث سبتمبر 2013م التي راح ضحيتها العشرات ممن غَرَّر بهم دعاة الخروج على الحكام الذين يكتفون بالخروج على الحكام بألسنتهم أو بالكتابة في مواقع التواصل الاجتماعي، أو بالتحريض من خارج البلاد؟! وماذا سيكون ردُّ هؤلاء إذا سئلوا عن دماء المسلمين الذين تسببوا في إراقتها بتحريضهم، وهي دماء أعظم عند الله من حرمةً من الكعبة المشرفة؟! وهل يظن هؤلاء أن الحاكم إذا خرج عليه البعض سيقف مكتوف الأيدي ولا يحرِّك ساكناً؟!
وأقول: إن التغيير الحقيقي المنشود يبدأ بتغيير النفس (وليس بتغيير الحكام)، وهي سُنَّة إلهية لا تحابي شعباً من الشعوب، ولا أمة من الأمم، ولا تتبدل ولا تتغير بتغير الأزمنة وتبدُّل الأمكنة، وهي السُّنة التي ذكرها الله تعالى بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11].
فعلى كل منا أن يبدأ التغيير بنفسه، بتصحيح المعتقد أولاً، وذلك يتوحيد الله سبحانه وعدم الشرك به، ثم تزكية الأخلاق وتقويم السلوك؛ فنبدأ بأنفسنا أولاً قبل أن نطالب الآخرين بالتغيير، فنكون عادلين فيمن ولَّانا الله أمره من أهل بيتنا أو مرؤوسيينا قبل أن نطالب غيرنا بالعدل، ونكون صادقين قبل أن نطالب الآخرين بالصدق، وهكذا قس على ذلك.
وإن الإيمان والتقوى والاستغفار والتوبة سبب في حلول البركات وتنزُّل الخيرات، عكس المعاصي والسيئات التي تنذر بالهلاك والعذاب والنكال، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].
ولنعلمْ أنه ما من مصيبة أصابتنا فبما كسبت أيدينا، وأنه ما وقع بلاء إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة، كما دلَّت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، وأن الحاكم الظالم ما سلَّطه الله علينا إلا بمعاصينا، وظلمنا لأنفسنا ومن حولنا، قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام: 129].
وهذا المنهج الثابت الذي ندعو له لا يعني الخنوع ولا الإقرار بالظلم والتبرير للظالم، كما يحاول البعض تصويره، ولكنها دعوة لسلوك السبيل الصحيح للتغيير، ودعوة للتناصح بالتي هي أحسن، فنحن ننصح الحكام والمحكومين بتقوى الله تعالى والعودة إلى الكتاب والسنة، وتحكيم شرع الله جل وعلا، وتطبيق العدل، فديننا هو دين النصيحة، والنصيحة تشمل كل فئات المجتمع وقطاعاته، كما في الحديث الذي رواه مسلم (55): (الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ ؟، قال: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ).
وإن ما أصابنا من هوان وذلّ بين الأمم ليس لشيء سوى تنكبنا صراط الله المستقيم، وبعدنا عن تعاليم ديننا الحنيف، ولن يزول هذا الوضع المؤسف إلا بأن يطبِّق كلٌّ منا الدين في نفسه، ويدعو إليه، ويكون صالحاً في نفسه مصلحاً لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ) رواه أحمد (4987) وأبو داود (3462) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
وإن مخالفة أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم أذان بالفتن والمصائب والمحن، كما قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
علي صالح طمبل