هذه ليست مبالغة ولا تهويلاً، ولا هي ادعاءً أو بروباغاندا دعائية، أو مشاعر عدائية وأحاسيس كراهية، وهي ليست من قبيل تشويه العدو وانتقاده، والتحريض عليه وحصاره، وهي ليست شكوى كاذبة أو مماحكة كيدية أو محاولة للضغط عليه وإكراهه، وليست افتراءً أو كذباً عليه، بل هي الحقيقة المجردة بكل وضوح، والمعلنة من طرفه دون خوفٍ، فهي السياسة الجائرةالتي تمارسها سلطاته العسكرية منذ عقودٍ حتى اليوم، وما زالت تعتمدها أساساً في أحكامها، وسوابق في قضائها، والشواهد على ذلك كثيرة وعديدة، بعضها ما زال ماثلاً في السجون والمعتقلات، وغيرها تحفظه سجلات المحاكم وملفات القضاء، وتستنكره اللجنة الدولية للصليب الأحمر ولجان حقوق الإنسان العالمية، وتعترض عليه المنظمات الدولية.
إنها السياسة الغاشمة القاسية التي تعتمدها محاكمه العسكرية المختلفة، والتي اعتاد عليها قضاته العسكريون، والتي يلجأ إليها ممثلو النيابة العسكرية ومندوبو المخابرات، ويساومون عليها المحامين وممثلي الدفاع، إلا أن القضاة ينساقون غالباً وراء توصيات النيابة العسكرية، ويؤيدون مرافعاتهم التي يستسهلون فيها الأحكام التي يطلقونها، ويرون أنها لا توازي ما قام به الفلسطينيون، ولا ترقى لأن تكون هي العقوبة الرادعة لهم، ولكنها أقصى الممكن وغاية القانون، ولو استطاعوا أن يخلقوا عقوباتٍ أشد وأقسى فإنهم لن يتأخروا عن فرضها، ولن يمتنعوا عن سن قوانينها، وفرضها على من يشاؤون من المعتقلين في سجونهم.
قد تكون الأحكام العسكرية الإسرائيلية آلية وتلقائية، ومعروفة ومتوقعة، ويعرفها المعتقلون ويتوقعها المحامون، فالمتهمون بقتل مستوطنٍ أو جندي، يحكم عليهم بالمؤبد عن كل قتيلٍ إسرائيلي، والمؤبد في العرف العسكري الإسرائيلي يعني مدى الحياة وليس خمساً وعشرين سنة كما هو معهودٌ في سجون العالم، وبذا تتضاعف المؤبدات بعدد القتلى أو المصابين، فنجد أن بعض المعتقلين محكومٌ عليه بخمس مؤبداتٍ أو عشر، وبعشرين مؤبداً أو بأربعين، وبسبعة وخمسين مؤبداً وعشرين سنة، وبعضهم محكومٌ عليه بالسجن مائة سنة وآخرون بأربعمائة سنة، وذاك صدر في حقه حكمٌ بالسجن مائة وثمانين عاماً وغيره بمائتين وخمسين عاماً، وغيرها من الأحكام الغريبة العجيبة، التي لا تتطابق مع العقل، ولا تنسجم مع الواقع، ولا يقبل بها عاقل، ولا يحكم بها قاضي، ولا ينطق بها عادل، ولا يسكت عليها حكيم.
الأحكام العسكرية الإسرائيلية العجيبة لا تقتصر على فئةٍ من المعتقلين دون غيرهم، بل إن القضاء العسكري يفرض أحكامه على الرجال والشيوخ، وعلى النساء والأطفال على السواء، وقد تفرض الأحكام نفسها على الأشقاء والأبناء معاً، وعلى الفلسطينيين والعرب، والمقيمين والنازحين، وعلى المتجنسين الأجانب أو حملة الجنسية الإسرائيلية من العرب، إذ تسعى سلطات الاحتلال أن تكون الأحكام رادعة، والعقوبات زاجرة، لتكون درساً لغيرهم وعبرةً لسواهم، وعقوبةً قاسية لهم ولأهلهم وأسرهم، رغم أنه قد ثبت لديهم أن أياً من الأحكام التي يصدرونها لا تفت في عضد الفلسطينيين، ولا تمنعهم من مواصلة المقاومة واستمرار العمل من أجل قضيتهم، وفي سبيل تحرير أرضهم واستعادة وطنهم.
يعلم العدو الإسرائيلي أن أحداً في سجونه من المعتقلين الفلسطينيين وغيرهم، لن يعيش طويلاً حتى يقضي العقوبة التي فرضتها عليه محاكمه، ولن يقضي في سجونه المدة التي يريدون ويأملون، ولن يشفي غليلهم ويرضي نفوسهم طول بقائه في سجونهم، إذ بعضهم يموت بحكم الزمن أو يرغم العدو على الإفراج عنه ضمن صفقات التبادل التي يكره عليها ويدفع إليها بالقوة، ولكنهم مع ذلك يصرون على فرض هذه الأحكام، ويبررونها بأنها دون الإعدام، وتتناسب مع حجم الجريمة، وترضي ذوي القتلى وتهدئ من غلواء نفوسهم، ومع ذلك فإن القليل من المعتقلين الفلسطينيين والعرب قد قضى أربعين عاماً في سجونهم، إذ أفرج عن أقدمهم بالقوة، رغم أنه حاول منع تحرير أخطرهم، وامتنع عن إدراج أقدمهم في صفقاته.
لا يخشى الإسرائيليون من المجتمع الدولي، ولا يأبهون بالاعتراضات الدولية، ولا بمراقبي مؤسسات حقوق الإنسان وهيئات المجتمع الدولي، ولا يردعهم عن إصدار هذه الأحكام سلطة أو قانون، ولا يمنعهم عن المضي بها خلقٌ أو ضميرٌ، ولا يرون في هذا ما يعيبهم أو يسيئ إليهم، ولا يرون أنهم يتفردون به دون غيرهم، بل يعتقدون أنهم رحماء وغير قساة، وأن أحكامهم رحيمة وقراراتهم إنسانية، بالمقارنة مع محاكم دولٍ أخرى وبلادٍ عربيةٍ، التي تصدر أحكاماً بالإعدام وتنفذها، أو تفرض عقوباتٍ بالسجن المؤبد المذل والأشغال الشاقة المهينة في سجونٍ تفتقر إلى أبسط الشروط الإنسانية، وتتنافى مع المعايير والقواعد الدولية، وهم على استعدادٍ للمحاججة القانونية والمقارنة القضائية.
لا يبدي المعتقلون الفلسطينيون في سجونهم قلقاً من هذه الأحكام، ولا تضطرب قلوبهم خوفاً منها، ولا يبدون استعداداً لمفاوضة النيابة العسكرية عليها لتخفيضها أو التراجع عنها، بل إنهم يهزأون منها، ويتهكمون من القضاة التي يصدرونها، ولا يقفون في المحكمة احتراماً لهم، أو طلباً للرحمة ومحاولةً للاستعطاف، فيزداد غضب القضاة فيفرضون عليهم فوق مئات السنين أو عشرات المؤبدات، عقوبة ستة أشهرٍ أخرى لتحقيرهم المحكمة وعدم احترامهم للقضاء.
الأسرى الفلسطينيون قديماً واليوم، لا يتزعزع يقينهم بأنهم سيخرجون من السجون، وسيتحررون من القيود، ولن يقضوا المدة التي فرضها القضاء الإسرائيلي عليهم، ولا تلك الفترة التي يريدها العدو عقوبةً لهم، إذ يؤمنون أنهم سيتحررون بالقوة، وسيخرجون في أقرب الآجال، وسينعمون بالحرية، وسيعودون إلى صفوف المقاومة التي كانوا فيها، وسيقاومون من جديد، وسيوجعون العدو وسينتقمون منه، وسينتصرون عليه بيقينهم وإرادتهم، ولن تخيفهم السجون التي ذاقوا مرارتها، والمعتقلات التي تجرعوا قسوتها، بل سيهدمون أو غيرهم هذه السجون، وسينقبون الجدران، وسيفتحون أبواب الزنازين، وسيخرجون منها رجالاً أبطالاً، مرفوعي الرؤوس ومنتصبي القامة وموفوري الكرامة، وسيبقون نجوماً في سمائنا، وشموساً في حياتنا، وصفحاتٍ ناصعة في تاريخنا.
د. مصطفى يوسف اللداوي