للعلاقات الإنسانية أربع مستويات رئيسية تمثل و تحدد علاقات الناس ببعضهم البعض و مدى المتاح من جزر و مد في علاقة دون الأخرى .
المستوى الأول هو المستوى الخاص بالعلاقات السطحية العادية التي قد لا تشكل حيثياتها معنى كلمة علاقة بل هي مجموعة تصرفات محددة بينك و بين أشخاص قد لا يمتون لك بأي صلة عدا كونهم في مرمى بصرك و سمعك بين الحين و الآخر و كأمثلة لهؤلاء الناس عامل النظافة في شارعك و الشرطي الذي قد تقابله في مفرق ما و البائع في محل ما و الساعي في مصلحة تراجعها و السكرتيرة عند طبيب تراجعه بل و رفيق سفر يجلس مصادفة إلى جوارك ، كل هؤلاء قد تراهم مرة واحدة طوال حياتك و لهذا التصرف الطبيعي ان تعاملهم بلطف و إحسان و تهذيب و ما يحدث عند البعض من إساءة لعامل النظافة و احترام و ترحيب لرفيق الدرجة الأولى إنما يعود لتقييمهم للبشر وفقا لمعايير المال و الشكل الخارجي فتجده يبتسم للسكرتيرة و يعبس في وجه العامل ، و هنا تظهر الأخلاق الحقيقية الغير مقنعة للفرد لأن هذا التعامل لا مصلحة ترجى من ورائه و بالتالي من يحسن فهو الأحسن و لاريب.
أما المستوى الثاني فهو يحكم علاقتك بالناس الذين قد تراهم يوميا من خادمة و سائق و حارس بنايتك و ساع يأتيك بالقهوة كل صباح و هؤلاء أولى بالخلق الحسن و الكلمة الطيبة و إن كانوا
أقل منك او أعلى شأنا فالمتواضع حقا هو من تواضع لمن هو أفقر و أدنى و أضعف لا من يتقرب لمن هم أعلى منه شأنا .. و هذا المستوى هو الذي يفضح فيه البشر و تنكشف أوراقهم و مكامن عيوبهم ..
يا كائنا مثلي لا تدهسن كرامتي.. قد رفعها الله عنده بين البشر
لاتعاملن الناس كبرا فسماحتي..
لعلها تنهاني أن ابادلك الشرر
أما المستوى الثالث يتحدد مع أناس تجمعك بهم صداقة او معرفة او زمالة او صلة رحم او قرابة او مصلحة و قد تتفاوت تعاملاتك مع هؤلاء الناس حسب المدى الذي يشغلونه من حياتك ، و هؤلاء تتراوح درجة الحسنى في التعامل معهم و تختلف وفق أطياف البشر واختلافهم فمنهم من يكرم و منهم من يسيء و معظم خلافات البشر تنشأ في هذا المستوى و بين عناصره.
المستوى الرابع هو المستوى الذي يشمل علاقة المحبين و المقربين مثل علاقات الوالدين بأبنائهم و علاقة الزوجين و علاقة الأخوة و علاقة المتحابين و علاقة الصداقات القوية و ماشابهها ،و هذا المستوى تزلزلت أركانه مؤخرا بجميع أشكال الاستهتار و التقصير فأصبح عقوق الوالدين أمر طبيعي و قطيعة الأخوة حكاية مكررة و خيانة العهد أمر لا بأس فيه ، فهذا يرمي والدته في دار العجزة من أجل زوجته و تلك تخون زوجها من أجل المتعة و ثالث يقطع أخاه من أجل المال ، قصص تنزع نياط القلب باتت تحدث بلا وازع و لاضمير ، و هذا المستوى الذي يجب فيه على أصحابه أن يبذلون النفيس لمحاولة الإيفاء بواجباته و حين يفشل الناس في ذلك يعزون التقصير إلى ظروف و مقادير بريئة من تبعاته و مسبباته.
جميلة دنياي حين يحيطني احباب`
يسقونني شهد المودة و التآخي
امنح الباقين وصلا حتى اذا ما غابوا
لا تذرفن الدمع ندما على أب و أخي
و كل هذه المستويات يربطها و يضبطها منسق واحد هو شريعة الله و المنهجية التي وضعها لعباده فحثك على ان تبتسم و جعل المقابل “صدقة”تحتسب لك و أمرك أن تكرم ضيوفك و تحسن إلى جارك و لاتحقرن الفقير و جعل إفشاء السلام باب للجنة و رفع بر الوالدين و قرنه بعدم الشرك به و حرم الخيانة و أكد على صلة الرحم .. و أمرنا أن نتكاتف كجسد فنتذكر بعضنا بدعاء في ظهر الغيب كما نفعل الآن لحلب ، كل هذه المستويات الأربع يحكمها المستوى الأعظم على الإطلاق و هو علاقة الإنسان بربه و رسوله ، و هو مايفرط فيه البعض فينفرط العقد وتتناثر حياته و تفسد جميع المستويات الأخرى فالحياة حينها متعثرة بلا صديق و لا أخ و لا حبيب من قريب او ذي رحم يدفيء صقيعها.
جمّل كلامك ما استطعت فالحياة قصيرة ..
و إلى الرحيل جميعنا قد استعد
لا تؤذ نملة في حفرة فلعلها ..
تكون منجاتك عند العدل الأحد
د. فاطمة عاشور