الحرية هاجس يعصف بأذهان البشر منذ أن حاكت الحضارات الإنسانية نسيج ازدهارها و الإنسان يبحث عن طريد يفني عمره أحيانا من أجل ملاقاته و احتضانه و بعضهم يضيع ماله وماعليه ليحصل على كلمة السر التي ستملأ حياته نوراً وحبوراً وتمنحه رخصة العبور نحو جنة اللاقيود والتصرف المطلق .
الحرية مصطلح يتفنن الناس في صياغة مفاهيمه و تعاريفه وفق توجهاتهم ومصالحهم و أهوائهم في أغلب الأحيان .
فالحضارات القديمة كالحضارة الفرعونية الضاربة في تاريخ الأصالة وهي أقدم حضارة بشرية عرفت في التاريخ وضعت جلً تفوقها و عبقريتها المتفردة في كيفية التخلص من قيد الاضمحلال والفناء وأثبتوا تميزهم في أمور لاتعد ولكن أهمها هو فك قيد الفناء بعد الموت وتحرير الجسد من الفناء فنزعوا إلى علم التحنيط و حفظ الأجساد بكمالها حتى إذا ماعادت لها الحياة يوما آخر وفق قناعاتهم بقيت الأجساد سليمة لاستقبال مكنوناتها و بذلوا الغالي والنفيس في بناء القبور والمعابد لتأصيل فكرة الحرية من قيد الموت والانتهاء بل بنيت المقابر لتكون إحدى عجائب الدنيا هندسياً و معمارياً للحفاظ على موميات الملوك و تخليد معنى البقاء في قالب العبقرية الحضارية التي وصلوا إليها .
و الحضارة الهندية ترفض إلى الآن في جانبها العقائدي الوثني فكرة فناء الجسد فمن حيث يبدو ظاهراً أنهم يحرقون جثثهم لأنها ماتت ولا طائل وراءها لتدفن , في اعتقادي أن الهدف المستتر أنهم يرفضون فكرة فناء الجسد فيريدون تحريره من ذلك ويسبقون بإهلاكه حتى لايبقى لعوامل الفناء أثر يذكر على موتاهم ، بينما يلبس ذاك الطقس التعبدي ثوب تحرير الجسد من الروح أكاد أجزم أن الغرض منه عكس ما يظهر في أن يظل الجسد حراً من قيد الهلاك .
والتراث العربي الجاهلي كان يقوم كإحدى عاداته السيئة الممقوتة بوأد البنات كرهاً في تقييد حرية الذكر بأن يمشي مرفوع الرأس بتصرف مخزٍ فاضح من الأنثى المرتقبة التي قد تجلب عاراً يسلب الذكر –من وجهة نظرهم- حرية الفخر و التفاخر التي كانت زادهم وزوادهم في تلك الحقبة .
الحرية مستترة والكوارث التي تطل برأسها في التفسيرات الملقاه على كاهلها تكاد تفتك بتلك الكلمة التي لم يعبث البشر بكلمة مثلما عبثوا بها و بتعريفها عبر التاريخ ،فانتهكت الأعراض بإسم الحرية و أزهقت الأرواح بإسم الحرية واغتصبت أوطان باسم الحرية و دُنِست قيم عليا باسم الحرية حتى الأديان و المقدسات أهينت تحت ستار الحريات و بين طيًات أثوابها ، وهي كلمة أرادها البشر ممطوطة مرنة تنفع لأن تكون عملة ذات وجهين فهي من وجه حرية لشعب ودمار وإذلال لشعب آخر كما يحدث بين الصهاينة والفلسطينيين ، حرية اليهودي كما يزعم بناء يبنى على قبر في أرض عربية تضم رفات مسلم بل وسقفه عرض بناته و جدرانه كرامة أولاده و أساسه ديناً ينتهك ليثبتوا دعائم دين آخر بموروثاته الحقيقية منها والمزيفة والمحرفة وكقناع لسياسة سرقة أرض وطرد أهلها .
والإرهاب ماهو إلا حرية مقسومة في ذات العملة البغيضة ففي وجه قناعة لدى السفاح أن يقتل و يذبح وينتهك ليحفظ مزعوماً حرية الدين وقداسته ويخفون الخيوط السياسية والمادية التي تحركهم و تمولهم و نسي هؤلاء أن رفعة الأديان كما ارتضاها الله لاتقوم أبداً على سلب الناس حرياتهم في العيش و فرض عقائدهم عليهم ليعيشوا إما وفق مايريدون أو يقتلون .
كيف يعطي أحدهم لنفسه الحرية ليفعل وفي ذات الوقت يسلبها من آخر !
وفي النواحي الثقافية والايديولوجية حدث عن هذه الازدواجية ولاحرج ، فالليبراليون الرائعون يملأون الدنيا نعيقاً بالتصويت للحرية بينما يسلبونها ضمناً ممن خالفهم باعتبارهم على باطل وهم فقط أهل الصواب ، وغيرهم من كل من اتشح بمذهب أو طائفة تنسب إلى الدين نسب غير شرعي فيقتل أحدهم الآخر ويقوم بكبيرة فقط لأنه يخالفه المذهب وتحاك المؤامرات من بعض الدول و تخطط الخطط لقرون وأجيال لتحقيق أغراض سياسية والظاهر تحرير مذهبهم من سطوة جور أهل المذهب الآخر .
والمذاهب عديدة والايديولوجيات الفكرية كثرت و تعددت وتعملقت وصار وسم المثقف لكي يحمل شرف عباءة الثقافة أن يخلع ثوب الدين ويلبس بنطال الايديولوجيات التي أفنى أصحابها أعمارهم لصياغتها و الحقيقة دوما يجتاحني طوفان من ضحك وأتساءل شفقة لماذا يلجأ المسلم لايديولوجية فكرية مغايرة وعنده أعظم ايديولوجية فكرية متمثلة في الإسلام وفكره كما أقر بذلك حتى أعدائه وتطل الإجابة البغيضة برأسها المشوه :بحثاً عن الحرية ! بحثاً عن الحرية التي يتوقون لها كانفلات من كل قيمة و انسلاخ من كل معنى ، حيث يحكم الهوى والهوى فقط هو الحاكم بأمره ، ويتشارك معهم في ذلك بعض المتثيقفين من أهل الفنون والكتابة والتمثيل وغيرها من فنون المرئي والمسموع ، ولست ضد الإبداع الفني والروائي بل العكس هو حالي في حب الإبداع ولكني ضد دعوى رمي كل ثوب لحياء أو فضيلة أو ثابت ديني لتنهش فيه أنياب الفوضى والإسفاف والرذيلة والعري والغرض المزعوم حماية حرية الإبداع و الابتكار وكأن الإبداع لايبدأ إلا من مناقع الدعارة وينتهي على أبواب الغرائز ، فنجد السينما والمسرح والدراما العربية اليوم قد تخلت في معظمها أو كلها عن رسالة قد تكون مقبولة في ظل إطارات لأعمال اجتماعية أو وطنية محترمة إلى مرابع تذاع وتملأ الهواء رذيلة وأغان تزكم الأنوف و تسد الآذان سخفاً وإسفافاً في عصرنا المعاصر وهؤلاء من رموز الثقافة ينظرون للملتزم أو المختلف معهم نظرة الدونية فيتشدق بالحرية ولكن حين السجال يعطيها لنفسه ويحجبها عن غيره و كأنه ذو الحق وغيره على باطل و نسي أن أول أركان حريته المزعومة هو أن تتصرف كأنك على حق وتترك سواك يتصرف بذات الحق الذي يرتضيه من نقاب أو حجاب أو أياً كان ويخالف فكرك ويشبههم في ذلك كل فتاة مسلمة أو شاب مسلم يترك ثوابت دينه ليلهث وراء سراب اسمه الحرية فتخلع حجاباً و تكشف عورة و يشرب خمراً و يمارس منكراً و تدهس حياءاً و تعق أباً وأماً فقط لتأخذ شرف اللقب وهي أنها حرة والحرية من كل تلك الترهات براء .
وهذا الهرج والمرج يسبب الاختناق في الواقع لذوي النهى و الألباب ممن فهموا هذا الدين و شملهم الله بنور يجعلهم يبصرون و لايرون فقط ، فالحرية في ديننا العظيم هي الحرية المسئولة المقيدة بقيود وحدود وخطوط حمراء وليست حرية المصلحة والهوى التي ذكرناها و لاحرية في ترك ثوابت دين تعتنقه و لا في أخلاقيات وقيم وضعها ربك وارتضاها أهلك .
حريتك تبدأ من حدود رضا ربك و تنتهي، ثم أنها تنتهي أيضاً عندما تبدأحريات الآخرين ،إن أردت أن تكون حراً اجعل حريتك وفق خطوط وإلا تحولت إلى فساد مطلق فالطاغية يقتل لأن حريته المطلقة بلا حكمة تقيدها تجعله يفسد و ينتهك ، ويدخل في الفهم العميق لمعنى الحرية مفهوم مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يحقق صفة خيرية الأمة بالتناصح الرفيق والموعظة الحسنة ، فالحرية الحقة سادتي تكمن في طيات قيد الاحترام لمعاني العبودية واحترام الآخرين .
القيدُ يسبغُ على الأحرارِ إعزازاً
ويلبس المختارُ ثوباً من الألقِ
فليست الحرياتُ رجماً لكل مكرمة
وليست الأصفادُ أوزاراً من الرهقِ
الحرٌ من عرفَ الحقً فنالَ سطوتَه
والعبد من كان عبداً لشهوةِ النزقِ
الحرٌ حرًاً إن وهبَ الغيرَ حقًهم
ليسلكوا المنهاج الذي يرضوه بالنسقِ
ولاخلاف مع أمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ
عن محرمٍ على أن يزينَ الأمرُ بالرفقِ
قيد جموحكَ بقيدٍ يهذبه
فالحرٌ عبدٌ لحريةٍ تجتازُ حاجزَ الأفقِ
د. فاطمة عاشور