نافذة – 3
المشربيات اسمٌ للنوافذ قد يبدو للجيل الحالي جديدا،ولكنه عتيق .. ينبيك خبر ذلك الزمان العريق …
في ذلك الزمان .. كانت المشربيات تميس على الدور، في بهجة وسرور ، وجمال ليس له نظير …
تجدها في مصر والشام والحجاز واليمن والمغرب وبعض بلاد فارس، بأشكال زخرفية هندسية أو نباتية أو بكتابات عربية تحكي عصور الحضارة في أيامها العامرة …
المشربية نافذة فسيحة لها خارجة مريحة .. ارتبطت بالشُّرب و الارتواء، فلا تحلو المجالس إلا بمحاذاتها، حيث الضوء والنسيم والحكايا والأهم من ذلك جرار الماء التي لا يطيب لها المكث والبقاء إلا بجوار المشربيّة، لتبرد وتطيب وتَروي القلب الصديّ الغليل…
هناك سرٌّ آخر للمشربية، فمادة تكوينها من خشب القندل الرطيب الآتي من البعيد .. من سواحل أفريقيا والهند من شجرة عجيبة لا تنمو إلا بجانب الماء على السواحل والشطآن، وعلى ضفاف الأنهار …
ريّانةٌ أنتِ يا مشربية …. يا نبتة الأرض الندية … هيا اروِنا واروِي لنا، فقلوبنا قد أنهكها الظمأ ..
تقول المشربية:
حينما أتيتُ خامًا إلى الأراضي العربيّة، لم أزجُّ في مصانعَ دَعيّة، بل تلقفتني يد صانع كريم الأصل والسجيّة.
أحسست بحرارة يده وشغف قلبه .. واقتربت من أنفاسه وسمعت هسهساته .. وتشربت قيمه، وأغرمت بشيمه.. فلنت في يده مطواعة جذلة….
لقد كان يحمل قلبا منفتحا على جميع الحضارات متسامحا بتلاقحها على أرضه.. بيد أنَّه صاحبُ دين وهُوية، وغيرةٍ وحميّة. فكانت بصماته عليّ جليّة، وكان حفيا بي كما كنت به حفية..
لم أحسّ معه بالغربة أبدا.. فشيمه وقيمه عطرٌ و شذا… موافقة للفطرة والطبيعة، وأنا القادمة من قلب الأرض والطبيعة.
زينني بالفسيفساء والحياء .. ونفث فيَّ من سحر البهاء .. وتساقط على أهدابي الكثير من عرقه.. فازددتُ ارتواء على ارتواء.
وحينما زفّني إلى الجدار … امتزجت بروح أنثى الدار … ورأيت ما يلهب القلوب والأفكار ..
وهاكم بعض الحكايا والأسرار …
كنت أَرى ولا أُرى … وأطّلع على ما يحدث بين الورى …
شاهدة على شروق الشمس في الصباح …. وفي الليل لا يفوتني النجم إذ تبختر بضوئه وسرى …
لم أكن وقتذاك محجوبة قط كما يزعمون .. كنت بكامل ارتوائي وحضوري ..أطل على العالم ويطل عليّ ..
من تلك الثقوب والنتوءات التي أبدعتها يد الصانع العاشق، ينفذ مني الهواء باردا عليلا.. وتبث لي الشمس أنوارها كليلة .. فللقندل الآتي من السواحل والشطآن عصا سحرية في تحويل نار الظهيرة إلى برد وسلام ….
وحينما كنت صبية في سن الغرام … كان حضوري بين الأنام … كحضور المجاز في الكلام ..
فاللغة المجازية لا تعطيك معناها مكشوفا بسيطا، ولكنها تعطيك المعنى مغلفا بآخر، تحب السّتر، ولا تعرف العُهر … ولا تكشف عن قناعها بيسر .. ومهرها عالي القدر … لا يخطب ودها إلا ثاقب النظر .. سامي الفِكَر … لا يمل من الطلب، ولا يكثر من العتب .. يعرف لغة الإشارة فيتلقفها بصبر ومهارة … حاضر البديهة، ولا يساوي الشريفة بالموقوذة والمتردية والنطيحة …
لا تهب نفسها للعابث اللاهي .. ولا الغافل الساهي .. فهي تعشق الفارس الهمام … من كانت هوايته النزال والاقتحام، وتخطي الزحام، ليفوز بها من بين الأنام…
لا يصرفه التمنع والهجران … بل يزيده طلبا وعنفوانا … “فـالحبُّ سعادة ترتعش” كما يقول جبران..
الغموض دثاري مذ كنت في الصحراء، أتراه سيكون ذلك العربي خصب الخيال .. عذب الأشعار … حلو الحداء، لو كنتُ أسافر بلا هودج، أو أقيم في خيمة بلا خباء …
أنا المشربية بين الظهور والخفاء ولذاك كسيت بالشعرية وأضحى لي مفعول السحر فألهبت قلب العربي، وأذهبت بلب الحازم الذكي ” ألم ترَ أنّ الحُسْن يكمن في الممتنع الذي يحرّك الهمة” كما يقول الجرجاني.. و”أنَّ المعنى كل ما كان خفيا، كانت صبابة النفوس به أكثر وكان الشغف منها أجدر”.
أنا المشربية حيث الرِيّ والرِواية، والحبُّ والحكاية، أرويكم بالماء الذي يبرُد من خلالي، وبماء الشّعر الذي يُرشأ من لحاظِي وقولي وظِلالي …
حوراء إن نظرت إليك سقتك بالعينين خمرا
وكأن رجع حديثها قطع الرياض كسين زهرا
فقلت : الآن علمت يا مشربية علم الصدق لا كذبْ، أننا في عصرنا هذه يلزمنا البكاء والندبْ …لقد جفّت الينابيع يا مشربية .. لا رِيٌّ ولا رِواية، بل نوافذ موصودة.. أو مهيضة مكدودة .. من الشعرية مطرودة .. قد هبطَت من برجها المجازي ففقدت المعنى الأول والثاني … فمتى تعودين يا مشربية؟
نوافذ فوزية تختلف عن اي نوافذ اخرى فقد نفذت من خلالها الى افاق واسعة ليس ع الحياة فحسب بل صياغة قالب لغوي جديد لتطل علينا من وجهين وجه الحياة المشرف ووجه اللغه البليغ وبكل بهاء وصفاء ونقاء .
دام هذا القلم بعطاءه
إحتراماتي للكاتبة الوقورة، فقد أعادتنا بنافذتها للزمن الجميل، يوم كانت البيوت أسرار تحفظ حواء وقارها خلف تلك المشربيات بما لا يعيقها من الإستمتاع برؤية شاملة للحي وأزقته وجمالها، فقد كانت تلك المشربيات تزيد البيت جمالاً بل وبعض برودة لتخلل الهواء العليل عبر نقوشها الزخرفية التي تمثل حقبة تأريخية ستظل بعون الله في ذاكرة التأريخ.. شكراً للكاتبة لحسن نافذتها في زمن طغى البنيان العصري على إرث الأجداد، والشكر موصول لمكة الإلكترونية لكوكبة كتاب تزين صفحاتها..
الأنامل الناعمة لا تقل رونقًا وصفاءً عن الأقلام اللامعة ، فالكاتبة أجادت وصف المشربية بأسلوب شيق قريب للنفس ، كما أنها تتنقل بين ودهات الكتابة وكأنها معزوفة هادئة تأسر القلب وتأخذ باللب ، شكرًا على الإبداع.?