نافذة – 4
صعدْتُ سلالم كثيرة حتى وصلتُ إليها مجهدة متقطّعة الأنفاس ..لقد كان منظر الكون من خلالها بهيٍّا يستحق العناء، رأيت العظمة تنفذ من خلالها في منظر خلاب مهيب .. ورأيت التقاء الأرض بالسماء في ودّ لم تألفه عيناي من قبل…
في ذلك المكان السحري في وقت الأصيل، استدارت الشمس واصفرَّت كأنها مذهبة .. وغمرني نورها الباهر وأشعتها الدافئة المودعة معلنة أفول يوم جميل … هاهو صخب الطيور المسائي يعلن أوبته للأعشاش .. وهبات النسيم العليلة محملة بتسبيحات الكون تشارك أحداث الأفول..
ازدحمت المشاعر وفاضت العبرات دون إذن أو انتظار .. فدائما هي أوقات الوداع مهيّجة للذكريات والأوجاع وكأنها موعد متجدد للتطهير وكشف المخبوء…
على بعد متر من النافذة الفريدة وقفت بإجلال .. فالمكان عالٍ عالٍ جدًا .. أشعر أني قد تخفّفْت كثيرا من الجاذبية الأرضية … وأن أقل هبة نسيم قد تأخذني معها وتطير بي بعيدا حيث المجهول.. اقتربت منها مسحورة مأخوذة بسعتها وبهائها وسموها وارتقائها .. فقلت في انبهار :
- لقد عرفت نوافذ كثيرة قبلك يا شرفة، ولكنك مختلفة .. مرتفعة .. سامقة .. مهيبة ألهذا سموك شرفة؟!
- تبسمَت في بهاء وقالت:أنا شُرفة وأحببت السّموق لأن الرؤية هنا أنقى وأصفى .. ومادة اشتقاقي من الشرف، وهو: “كل نشْزٍ عن الأرض” فهي كل ما علا وارتفع وتعالى.. لا ذباب هنا ولا روائح رطوبة ..فالصعود طهارة وسمو يا عزيزتي الصاعدة ..
- أعجبني هذا الحرف (النشوز عن الأرض) .. ولكن لمَ التعالي على الأرض يا شرفة وقد خُلقنا منها،وسنعود إليها؟! “خفف الوطء فإن أديم الارض من هذه الأجسادِ”.
- أنت قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله، وكلما ارتقيتِ سموتِ وعرجتِ في مراتب الشّرف ..
- خدعة أفلاطونية يا شرفتي .. كلنا غارق في الوحل، كلنا ملطخ بالرذيلة … عن أي شرف تتحدثين ؟! لو طال عنق جدارك أكثر قليلا لبضع كيلومترات فقط، لرأيتِ أعمدة الدخان هناك تلوح .. وجحيمًا ينصبُّ على رؤوس البشر ليحيلهم إلى أشلاء ملقاة على أرصفة الإنسانية. ولرأيتِ صقيعا جعل أطراف الطفولة تتكسّر، وبشرية تُنحر جوعًا وعطشًا وغرقا في زوارق الضّياع والخوف والموت … ونحن سامدون … هل نحن متواطئون مع هذا الجحيم يا شرفة؟ .. فرؤوسنا في أقبية النعام .. ولا زلنا نأكل الحلوى ونقتات التّرف، ونتناقل الطُّرف التي تحكي خيباتنا يا شرفة.. لا نشكو سوى بعض آلام في الرقبة والأبهر من كثرة التحديق في شاشات صغيرة للتواصل والتراشق وإبداء فتات الشرف الكذوب .. هل كنت سأسامح العالم لو كنت أعيش في ذلك الجانب يا شرفة؟!… أحس بأننا عراة من الشَّرف .. وشجر الكون لن تكفينا أوراقه لنخصف شرفنا المثلوم..
صمتٌ كئيبٌ لفّنا.. ووقفة حداد على يوم من أيام الحياة الراحلة .. حيث رحل الشفق الأحمر سريعا .. والليل الدّامس قد لبس سواده المهيب .. لا أعلم كم امتد بنا الصمت حتى اخترقه صوتها الحنون:
- هل ترين شيئا في السماء يا عزيزتي ؟
– لا أرى سوى الظلام والعتمة..
- تأملي أكثر ؟ فقلت في كرب : نجمة أو نجمتان تعبثان بالظلمة.
- ارجعي بصرك وتأملي أكثر وستتغير الرؤية ..
وبعد تأمل ..رأيت بساط الظّلام بدا وكأنه نسيجٌ مخمليٌ ممتد .. نُثرت عليه النجوم نثرا وكأنها قطع ألماس ألقتها يدٌ ماهرة .. وبدا الليل ساحرا وادعا كما لم يكن من قبل.
- هل كنتِ سترين هذه النجوم اللامعة لولا ظلام الليل يا عزيزتي؟!.. تأملي إنها تزداد بريقا كلما اشتدَّ السَّواد وكلما غار الليل في الظلمة..
أيتها الصاعدة الحزينة !! يا من هويتِ الصّعود وتكلَّفتِ عناءه .. كفكفي دموعك .. وحافظي على بريقك الدّاخلي ولا تدعي غبار اليأس يغشاه؛ فالشرف لا يعرف حديث اليائسين المحبطين ..
الشرف كائن لطيف يعيش دواخلنا ينمو بالحبّ ويُسقى باليقين .. الشرف فسيلة تنبت في القلب تأنف العنف وتموت بالكراهية.. ابحثي حولك عن نجوم الشرف الحقيقي فللشرف عبير وعبق لا يستنشقه المقنّعون والمائلون مع الرياح والناعقون خلف كل صياح..
مارسي التأمل والصعود .. وعاودي رؤية الكون من الشرفات العالية هناك تتقلص الأحجام والأحزان، وتصبح صغيرة ضئيلة ..هناك تنجلي عين البصيرة وتتجدد الآمال، ونبصر المِنح المخبوءة في باطن المحن كما أبصرتِ هذه النجوم في بطن العتمة يا نجمتي الصاعدة..
هل تشكين لحظة في طلوع الفجر بعد هذا الليل الداكن؟ … سيحل الفجر حتما ولكن في موعده .. فإياك الوقوف يا عزيزتي فالماء الراكد يأسن .. بادري .. غامري .. أخطئي .. وصححي .. واستمعي دائما لصوتك الداخلي .. وكوني أنتِ لا المواقف، وكوني أنتِ في كل المواقف.. الأيام ترحل ولا تعود فاحملي رحالك واتخذي قرارك أن تلحقي بنجوم الشرف أو أن تظلي في السّفوح .. فإذا كان قرارك هو الأول، فلا تنسي زيارتي ولا تنكري صداقتي فأنا كنتُ ولا زلتُ شرفة …