المقالات

القنص والصيد في الجذور

 جاء في لسان العرب،  مادة (ق ن ص) :

قَنَص الصيْدَ يَقْنِصُه قَنْصاً وقَنَصاً (بسكون النون أو فتحها) واقْتَنَصَه وتَقَنَّصَــه. صاده كقولك : صِدْتُ واصْطَدتُ. وتَقَنَّصَه تَصَيَّده.
والقَنَص والقَنِيص: ما اقْتُنِص . قال ابن بري: القَنِيص الصائد والمَصِيد أَيضــاً.
والقَنِيص والقانِص والقَنَّاص: الصائد، والقُنَّاص جمع القانِص.
وقال عثمان بن جني (صاحب الخصائص) : القَنِيص جماعة القانِص، ومثل فَعِيل جمعاً الكَلِيبُ والمَعِيزُ والحَمِيرُ.
والقَنْص، بالتسكين: مصدر قَنَصَه أَي صاده.
والقانصة للطائر: كالْحَوْصَلة للإِنسان. قال في التهذيب: والقانِصَة هَنَة كأَنها حُجَيْر في بطن الطائر، ويقال بالسين (قانسة) ، والصادُ أَحسنُ . وهذا من جماليات اللغة العربية ، فصحيح أنَّ حروف الصفير تتعاور إلا أنَّ تعاورهـــــــــا منضبطٌ وخاضع لنظريّــةٍ جماليّــةٍ .

هنا في ( قنص) يجوز مثلاً كما أسلفنا ، أن نقــول ( ق ن س) ولكن لا يجـــوز أن نقول(قنز) ، فالصاد هنا أجمل من السين ، والزاي ليس لها تواجد هنا لأنّهـا تنقلنا الى  معنىً آخـر . قال الفيروزابادي في القاموس المحيط :

القِنْزُ، بالكسر: الرَّاقُودُ الصغيرُ، كالإِقْنيزِ، وأقنَزَ: شَرِبَ به، والرجُلُ المُتَقَزِّزُ، ويضمُّ، وبالتحريك: الخَزَفُ، والقَنَصُ.
والقانِزُ: القانِصُ، كالمُقَنِّزِ والقَنَّازِ . ودخلت مادة (القنص) في ايّامنا العجيبة هذه دائرة السياسة والإرهاب ، فالقنّاصةُ والقنّـاصون مجموعة من الإرهابيّين تغتــال  أهلهــا ومواطنيها لأغراضٍ غير أخلاقية ، تختبئ على أسطح البنايات وفي دهاليز معدّة لهذه الغاية  يحسبها الأبرياء آمنة فإذا بالموت الزؤام يأتيه منهــا .

وعائلة الحروف، المكونة من الصاد والقاق والنون ، عائلةٌ ثنائية الجذور ، فليس فيها من الجذور الموظّفـة عمليّـاً سوى ( قنص ) و (نقص ).

والجذر ( ن ق ص) قيل فيه:

نَقَصَ الشيءُ نَقْصـاً ونُقْصانـاً، ونَقَصْتُهُ أنـا، يتعـدَّى ولا يتعـدَّى: (أي يكون فعلاً لازماً ومتعدّياً) ، يُقال : قنص الصائدُ (بدون ذكر المفعول به، أي قام بفعل القنص) ، ويُقال : قنص الصائدُ طائـرَ الحجل (بتعيين المفعول به) .
وانْتَقَصَ الشيءُ، أي نَقَصَ. وانْتَقَصْتُهُ أنا.
وانْتَقَصَ المشتري الثمنَ، أي استحَطَّ (طلب من البائع إنقاصــه خلال المساومة).
والمَنْقَصَةُ النَقْصُ . والنَقيصَة العيبُ ، وفلان يَتَنَقَّصُ فلانـــاً، أي يقع فيه ويثْلُبُهُ.

يعيبه ويقع في عِرْضِــه بذكر نقائصه .

وبين الجذرين مشاكلة خفيّة ، فالقنص عمليّاً هو انتقـــاص من أعداد القنيص .

أما الصيد من الجذر الثلاثي (ص ي د) فنقرأ فيه :

صاد الصَّيْدَ يَصِيدُه ويَصادُه صَيْداً إِذا أَخذه وتَصَيَّدَه واصْطادَه وصادَه إِياه. يقــال: صِدْتُ فلاناً صَيْداً إِذا صِدْتَه له ، كقولك بَغيتُه حاجة أَي بَغَيْتُها له . صــادَ المكانَ واصْطادَه: صادَ فيه ؛ والصيد كان شائعا بين العرب ، فلقد اعتادوا صيد الغزلان والأرانب والحباري والحمر الوحشية والطيور المختلفة كالحجل والبط و ……

صادوها باستخدام الكلاب المُعَلَّمة والصقور وصادوها بالحبائل والسهام والحجارة وبواسطة كمائن وأعمال خداع كثيرة يخدعون بها البهائم ويمسكونهـــــا حيَّــةً أو ميتة . ولقد أكلوا الميتة قبل الإسلام .

ولذلك نزلت في القرآن الكريم آيات كريمة إضافة إلى أحاديث شريفة تبيّن أحكاماً خاصة بالصيد منها :

قوله تعالى : (( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا )) [المائدة:96] ، وفي السورة ذاتها يقول تعالى:

((ياأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم )) المائدة / 94 .

وقوله تعالى : ((يَا أَيُّهَــــــا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًـــا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا )) سورة المائدة/2 .

والحديث الشريف عن البحر : (هو الطهور ماؤه الحلُّ ميتته). وحديث سيدنا عدي بن حاتم رضى الله تعالى عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض قال ما أصاب بحده فكله وما أصاب بعرضه فهو وقيذ (أي مات خنقا ) ، وسألته عن صيد الكلب فقال : ما أمسك عليك فكل فإنَّ أخْـذَ الكلبِ ذكاةٌ ، وإنْ وجدْتَ مع كلبِـك أو كلابِـك ً كلبـــــــاً غيره فخشيت أن يكون أخذَه معه وقد قتله فلا تأكلْ فإنما ذكرْتَ اسْـــمَ الله على كلبك ولم تذكره على غيره . والمِعْراض سَهمٌ لـه أربعُ قُذَذٍ دِقـــاقٍ، وإذا رُمِيَ به اعتَرَضَ. قال الخليل: هو السَّهم الذي يُرْمَى به لا رِيشَ له يمضي عرضـاً.

وكثر ذكر الصيد ومفرداته في أدبيّـات العرب ، فهذا جرير يقول :

طَرَقَتْكَ صَائِدَة ُ القلُوبِ وَلَيس ذا,

وَقْتَ الزّيَــارَة ِ، فارْجِعي بسَلامِ

 تجري السواكَ على أغرَّ كأنّـــــــه

بردٌ تحدرَ منْ متونِ غمـــــامِ

لوْ كانَ عهدكِ كالذي حدثتنــــــــــــا

لَوَصَلْتِ ذاكَ فكَانَ غَيرَ رِمَامِ

وصائدةُ القلوب هنا هي الفتاةُ الجميلـــةُ .

وهذا المجنون قيس ليلــى يصطاد ظبية ، ولمّـا أراد حلَّ وثاقها تذكر محبوبته ليلى من عيني طريدته وعنقِـها فقال بعد أن أطلقهــا إكراما لعينيْ ليلى :

فعيناكِ عيناهــا وجيدُكِ جيدهــا

 ولكنَّ عظم الساق منكِ دقيـــــق ُ

أقول وقد أطلقْتُهــا من وثاقهـــا

فأنتِ لليلـى مــا حييْتُ طليـــــقُ

ويحكي أن قوماً خَرَجُوا إلى الصيد في يوم حار فإنهم لكَذَلك إذ عَرَضَتْ لهم أُمَّ عامرٍ (كنية الضبع) ، فطَرَدُوهـا وأتبعتهم حتى ألجؤهـــا إلى خِبــــــاء أعرابي

فخرج إليهم فقال: ما شأنكم ؟

قَالوا : صَيْدُنا وطَريدتنا
فَقَال : كلا والذي نفسي بيده لا تصلون إليهـــا ما ثَبَتَ قائمُ سيفي بيدي . (رفض الاعرابي ان يقتلوها باعتبارها قد استجارت بها فأجارهــــا).
قَال : فرجَعُوا وتركوه ،
وقام إلى لِقْحَةٍ “ ناقة ” فحلَبَهَا وماء فقرَّب منها فأقبلت تَلِغُ مرةً في هذا ومرة في هذا حتى عاشت واستراحت … وبينما الأعرابي نائم في جَوْف بيته إذ وّثَبَتْ عليـه فبَقَرَتْ بطنه وشربت دَمَه وتركته ميتــاً وهو الذي أجارها وحماها.

فجاء ابنُ عمٍّ له يطلبه فإذا هو بَقِيرٌ (مقتول) في بيته فالتفت إلى موضع الضبع فلم يرها ، فَقَال : صاحبتي والله فأخذ قوسه وكنانته واتبعها فلم يزل حتى أدركهـا فقتلها وأنشأ يقول:

وَمَنْ يَصْنَعِ المَعْرُوفَ في غَيرِ أَهْلِـهِ

يُلاَق الَّذي لاَقَى مُجِيــــرُ امِّ عَامِـــــرِ
أدامَ لهــــــا حِينَ استَجَــارَتْ بقُرْبِــهِ

 لهـا محْضَ ألبَانِ اللقَــاحِ الدَّرَائِــــر

وَأَسْمَنَهَــــــــا حَتَّى إذَا مَـا تَكَـامَلَتْ

فَــرَتْهُ بأنْيَــابٍ لَهَـــا وَأظَـــــــــــــافِرِ

فَقُلْ لِذِوِي المَعْـرُوفِ هَذَا جَزَاءُ مَنْ

بَدَا يَصْنـعُ المَعرُوفَ فِي غَيْرِ شَاكِرِ

وذهبت مثلا بين العرب ( كمجير أم عامر) .

وهناك أشعار للنابغة ولبيد وغيرهمــا في الصيد ، ويُسمّى هذا النوع من الأدب بالطرديات ، وقد اشتهر بين العرب الصيد بالصقور ، وهو المسمى ( البيْـزَرة)

وشُهِر به أهل الخليج العربي قديما وحديثاً، يجلبون الصقور من سورية ( منطقة القلمون والرحيّبة خصوصاً) ومن الباكستان وغيرهما وبرعوا بتدريبها، واشتهر المرحوم الشيخ زايــد آل نهيـــــان رئيس دولة الأمارات العربية المتحدة بالصيد بالصقـــور وله كتاب جميل جدا ونافع عن البيزرة ، وممن اشتهر أيضا بهذا الفن سموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتــــــــوم رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي والشيخ خليفة رئيس الدولة الحالي وأخوانه وعموم الطبقة الكريمة الحاكمة ( في أبو ظبي ودبي وعجمــــان وسائر الإمارات)، حيث يعتبرون البيزرة رياضةً تراثية نبيلــــة تتوارثها الأجيال(*).

وجذوريا لم يفرّق العرب بين استعمالات مفرَدَتَيْ القنص والصيد ، إلا أني أرى أن الصيد أعمّ من القنص، والقنص يستعمل لأعمال الصيد التي تتطلب تخفّيــاً ودقّـــة أكثــر ، أما الصيد فهو بالعموم المطلق سواء كان بالسهام أو الأحابيل أو الكلاب المدرّبــة أو الصقور . وعليه فالصيد بالاختباء والأحابيل والتخفي والاحتيال، يُعَـدُّ قَنْصــــا ، لأيَّ نوع من الطرائد كان ، وكذلك الصيد الحديث بالبندقية وأمثالهــــا ، ويطلق على الأنواع جميعهــا صيداً .

———————- حاشية :

(*)إشارة الى بطولة الشيخ راشد بن حميد النعيمي للصيد بالصقور هذا الأسبوع وقبلها باسبوعين كانت بطولة فزاع للصيد بالصقور، تنظيم مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث في دولة الأمارات .

د. محمد فتحي الحريري

باحث في شؤون اللغة والاسرة وعلم التربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى