قصيدة النفس لابن سينا “هبطت إليك من المحلّ الأرفع” من النصوص الفلسفية ذات البعد الروحي الجميل. حين أقرؤها أشرع مخيلتي لتجوال ممتع في رحاب الوجود الإنساني ، فالقصيدة تختصر علاقة الروح بالجسد و توتّرها في البدء ثم أنسها به فالارتهان لرغباته ثم الانعتاق منه و العودة مجددا إلى مرابعها الأولى ، و عند هذه المرابع ، أو “الحمى” كما في القصيدة ،أقف أتمثّل هذا السفر الروحي عبر الآفاق و الاستقرار أخيرا في عالم ملكوتي ، أو بتعبير القصيدة ، في الفضاء الأوسع .
و أحسب أن هذه القصيدة قدحت في ذهن إيليا أبو ماضي و هو يحلّق في أجواء الخيال عبر قصيدته الرائعة “العنقاء” . لا أقول هذا مستندا إلى معارضتها بحرا و رويًّا فحسب ، و إنما إلى ما هو أبعد من ذلك ، إذ تبدو فلسفة أبو ماضي في عنقائه امتدادا لفلسفة ابن سينا في قصيدة النفس ، فابن سينا يصوّر علاقة الروح بالجسد و هبوطها فيه ثم ارتهانها لرغباته و انعتاقها منه لاحقا ، و أبو ماضي يصوّر رحلة بحث طويلة ، هي في جوهرها بحث عن حقيقة كامنة في النفس / الروح ، عثر عليها أخيرا في نهاية الرحلة لكن بعد فوات الأوان ، و هذا ما يعزز استلهامه قصيدة النفس و جعلها شرارة انطلاقته ، و على إثر ذلك حلّق عاليا و أنتج نصا شعريا من أعمق نصوصه ، و لا أدلّ على ذلك من عنوان قصيدته الذي يحمل بعدا أسطوريا يشي بهذا البحث الذي يتجاوز المادّي إلى المعنوي أو الروحي .
و في السياق ذاته يظهر تأثّر عبد الله البردوني بقصيدة أبو ماضي في بنيتها و تنامي أحداثها و عنصر المفاجأة في الخاتمة التي تكسر أفق التوقّع لدي المتلقي ، حيث تتقاطع قصيدة البردوني “لقيتها” مع قصيدة أبو ماضي “العنقاء” إلى درجة التناص الجلي ، الذي يكشف عن تواصل إبداعي من خلال القراءة ، إذ كلا القصيدتين تستند على البحث عن قيمة روحية يعسر الوصول إليها إلا بالعودة إلى الذات و الإيغال في عالمها الداخلي ، فأبو ماضي لم يعثر على ضالّته إلا بعد أن “عصر الأسى روحه فسالت أدمعا” و ذلك بعد رحلة مضنية من البحث و التنقيب و التفتيش ، و البردوني على النهج نفسه بحث حتى عثر عليها أخيرا قريبةً منه ، على حدّ قوله :”
و لقيتها .. يا شوق أين لقيتها ؟
عندي هنا في الحبّ و الآلام”
و كلا الشاعرين طوّف و بحث عن ضالة في أعماقه ، فأبو ماضي يعترف :
” و علمتُ حين العلم لا يجدي الفتى
أن التي ضيعتها كانت معي”
و البردوني يختم بقوله :
“فتشت عنها و هي أدنى من منى
قلبي و من شوقي و حرّ أوامي”
لا ريب أنه ،و بغير إنعام نظر ، يمكن ملاحظة التشابه المعجمي بين أبو ماضي و البردوني فضلا عن التشابه في البناء الدرامي لرحلة البحث عن الضالة الروحية التي أشعل جذوتها في الأساس ابن سينا في عينيته الرائعة التي هي أيضا تصوّر رحلة ابن سينا الوجودية و الفلسفية .
سعود الصاعدي