نافذة – 6
اشتاقت المشربية لشقيقتها الشنشول .. فهما من نسب واحد .. ويجد الناظر إليهما دلائل قربى في الشكل والمحتوى لا تخفى على ذي بصيرة، بيد أن الشناشيل قد استوطنت العراق الشقيق، ولم تلتقيا منذ عقود .. واشتد الوَجْد بالمشربية حتى باحت لشقيقتها بأشواقها ولوعتها:
– كيف أنت يا شنشول؟ يا شقيقة الدم والروح؟ وعلى ماذا تطلّين؟ وفي أي وادٍ تهيمين ؟!
هل تطلّين على الكوفة أم الرصافة أم على حاضرة الخلافة؟
هل تشرفين على بلاط أبي جعفر المنصور؟ أم على موائد هارون الرشيد الممتدة العامرة لإطعام الشيخ والفقير وعابر السبيل؟ … أم أنك تبسمين لعين زبيدة يا شنشول؟؟
أم أنك على موعد غرامي مع عينيّ السياب التي ما فتئت تحدق فيكِ ترقب ابنة الجلبي تحت الرعود والمطر ..أذكر أنكِ قد خيبتِ آماله يا شنشول، ألهذا أراكِ باكيةً حزينة؟! أم أنكِ تبكين الأمن الذي غاب.. أم الإنسان الذي غدا وحشا كاسرا في غاب .. أم أنكِ حقًا تشتاقين للحب والسياب:
ثلاثون انقضت , وكبرت كم حبٍّ وكم وجدِ
توهج في فؤادي!
غير أني كلما صفقت يدا الرعدِ
مددت الطرف أرقب : ربما ائتلق الشناشيلُ
فأبصرت ابنة الجلبي مقبلة إلى وعدي!
ولم أرها . هواءٌ كل أشواقي, أباطيلُ
ونبتٌ دونما ثمرٍ ولا وردِ !
أم تبكين حضارة أجدادك التي عمّت المشرق والمغرب، وامتزجت فيها أعراق الدنيا من فرس وروم وهند وبلاد ما وراء النهر .. حضارة لألاء، غار منها النجم والقمر .. أم تبكين المساجد والقباب .. أم تبكين بغداد قبلة العاشقين والزهاد والعلماء والقيان، والشعراء والفرسان… أم تبكين السندباد الذي أبحر وما عاد…
أم تبكين لأنك لم تستوعبي الكيد واللعبة الحقيرة التي حيكت للإطاحة بشرفك ومجدك وتاريخك العظيم.، و”إن كاد مكرهم لتزول منه الجبال”.
أعلم أن فتوحات أجدادنا منذ تلك السنين كانت موقد أحقاد الفرس والروم الدفينة، وأن حضارة أجدادنا التي بنيت بالقيم والعلم قد اعتلت على أنقاض حواضرهم .. ولكنك بالتأكيد تعرفين بأن الأجداد ِعلى ما ارتكبوا من أخطاء .. لكنهم في فتوحاتهم لم يحرقوا طفلا ولا امرأة ولم يهدموا كنيسة ولا معبدا، وما لجؤوا للقوة والحرب إلا لصد الثورات والخيانات الغادرة …
لقد أنشؤوا حضارة تليدة امتزجت فيها الأعراق والأجناس من فرس وروم وسنْد وحبشة، فنجد فيها سيبويه الفارسي يعشق لغة العرب ويؤلف في قواعدها (الكتاب)، ومثله ابن جني الرومي في خصائصه، وأزهرت العلوم في كل فن على يد ابن الهيثم والبيروني والخوارزمي وجابر ابن حيان .. حتى كاد العثور على عرْق عربي خالص في بغداد من الصعب بمكان ..
– احكِ لي يا شناشيل ما الذي جرى في بغداد .. وأين الزهر واللبلاب الذي كان يعرش حواليك يغازل ماء دجلة والفرات؟ وأين النخيل ؟ احك لي عن الحُرق البليغ في وجهك، وعن أطرافك التي تهشمت … وعن عينيك الزائغتين .. وعن شرفك المغتصب ..
– جرحي عميق يا مشربية، لقد اغتصبني بَنيَّ قبل الأعاجم، وتنكّر لشرفي الجار والصديق … فالعرب لم يعودوا عربا يا مشربية .. لقد سُلط على رقابهم سلاطين جائرين هجّروا العقول وقتلوا الشرفاء.. ولم يبق في دورنا إلا أشباه أحياء، وثروات أسالت لعاب الأعاجم.
ذات ليلة .. وأبناء البلدة يتشاجرون مع جيرانهم، جاء الأعاجم بسلاحهم الرحيم ليفرعوا بين الفرقاء .. ويصلحوا بالدبابة والرشاش بين جيران العروبة والدين واللغة، وضربوا بينهم بسور له باب ظاهره فيه الرحمة وباطنه العذاب … وحينما ذاقوا الدماء الزكية، اشتدت بهم الشهية، وعاودوا الكرة بعد سنوات ولكنهم هذه المرة قد جاؤوا بمكيدة عجيبة…
جاؤونا في الليل بمسوخ من البشر: شقر وغبر .. ألبسوهم ثيابنا وركَّبوا فيهم لِحانا، وقلَّدوهم عمائمنا ومسَّكوهم سيوفنا، ونفثوا فيهم من سموم الحقد القديم ما الله به عليم لتشويه الخلافة الجليلة والحضارة الجميلة ووسموهم بتنظيم الدُّوَيلة .. لقَّنوهم التكبير والشرّ المستطير .. يكبِّرون ويكبِّرون وهم لا يعرفون مكان القبلة ولا حتى الوضوء .. سفكوا دماءنا ومن ثم أصبح لهذا السفك ذريعة وصولة بحكم القضاء على الإرهاب الذي شكلوه على صورتنا ولغتنا .. ومن خلف بساط الدم الأحمر الدافق المهراق ثور هائج مختبئ جاء ليستأثر بالذهب، ليحوّله من هذه الأرض إلى أرض بعيدة حيث يتقاسمه مع يأجوج ومأجوج بلا عتب.
– ما الخلاص يا شناشيل؟ لقد أضحى حالنا من الذل والقهر ما يفلق الحجر .. النيران تحيط بنا من الشمال والجنوب والأفق يسوده الدخان الأسود..
– الظلم لا يدوم يا مشربية و”كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله”، وطريق الخلاص في المحجة البيضاء، وهو طريق شاق محفوف بالمكاره والأشواك… ولكنه السبيل ولا سبيل غيره، حين نمضي فيه معا معتصمين بكلمة الله سيفتح باب الفرج وسيستيقظ المارد الجميل ويشرق كشمس تطل على كل النوافذ والشرفات. إنه وعد الله، “إن الله لا يخلف الميعاد” ..
فوزية الحبشي