نافذة – 7
على صوت أمواج الخليج الهادرة المتلاطمة امتدت يدان تطرقان أخشاب دريشةٍ قديمةٍ تطلُّ على الخليج بأهدابها المغلقة، يدان عطشاوان تطرقان، تتحسسان دفئًا منسابًا من تلك الثقوب الهندسية العتيقة، تتشممان رائحة العود والريحان، تتلمسان أنفاس الماضي، تناجيان أحزانه وآماله المعطرتين بالإيمان.
وفجأة تنفست الدريشة من قوة الحنين، واستيقظت بعد سبات عتيق، دبَّت فيها الحياة وعاد نبضها الطروب ثملًا مع الرياح.
لقد اعتادت الدريشة أن تفيق في صباحاتها القديمة على ملح الدموع التي تسح من عيون المرأة الجميلة، تعودت على دفء رأسها المستند عليها تبثها الأشواق والأحزان .. على نظرات عينيها النجلاوين ترقبان من ثقوبها بحارها البعيد.. بحارها الذي وهبته آخر النظرات من خلالها، وتلقفت وداعه ملوّحا لها بأجمل الوعود، تودعه ماضيًّا يخوض غمار البحر كفارس نبيل. لقد اعتادت الدريشة على تمتمات شفاهها اللمياء المكتنزة تلهج بالدعاء أن يعود.
كم شرقت الدرايش بملح البحر من خارجها في زمجرة الأمواج، وكم شرقت من داخلها بملح الدموع والأشواق والحنين، الملح إذن هو قدرك يا دريشة.. فماء الدموع طهرٌ من الأحزان وسلوٌّ عن الأشواق، وماء البحر طهرٌ من الأنجاس، ووقاء من العفن.
تثاءبت ومططت مصاريعها المثقلة وقالت في غضب:
– من الذي أيقظني ولم يشرق الصباح بعد في الخليج .. ولم تعد السفن الغائبة .. من الذي أيقظني؟! وقد أدمنتُ السُّبات، لأنه يليق بي .. فلم تعد تقرع الطبول هنا، ولم يعد أحد يسمع مواويل البحارة، وغابت الأفراح والأهازيج التي كانت تشع في المكان فرحًا بالناجين المحملين باللؤلؤ والحنين.. لا شيء في الخليج الآن سوى الصمت والموت والخدر…يصيح بالخليج “يا خليج يا واهب اللؤلؤ، والمحار ، والرّدى “.
من الذي أيقظني وقد غاب إنسان الخليج في قواقع الأوهام لأنه اعتقد فجأة بأنه دانة الوجود، وأسلم نفسه للغياب وسلَّم الغريب مفاتيح الخليج من عقود ..من الذي أيقظني وقد غاب بحاروه وغواصوه الذين يجابهون البحر، ويسيِّرون أمواجه، ويغوصون في غماره، ويصخبون على أديمه الأزرق الأصيل.
لقد نفق البحر مذ نافق الإنسان، مذ أدمن التقوقع وأغلق على نفسه المحارة، فتكلّس وتشوهت ملامحه وفقد المعنى مذ طوق الذهب الأسود المكان …لقد أصابه الخدر وأعياه الكدر ..لم يعد يتحدّى..لم يعد يعتصر، نسي كيف يغوص في الأعماق يغازل اللؤلؤ والمرجان … فجيوبه مليئة بالنقود، وموائده مليئة بالطعام، وحقائبه قد أدمنت السفر .. لقد أضاع البحارة الخريطة، وتدحرجوا في سنون التيه .. ولا زالوا يبحثون عن المعنى عند الغريب يحذون خطاه حذو القذة بالقذة، ويدخلون جحور الضباب وأوكار الذئاب، وفجأة استيقظوا وقد ضاعت ملامحهم، وضاعت أصواتهم كما أضاع ذلك الببغاء صوته حين امتهن التقليد.
لا توقظيني مرة أخرى، فهذا ليس زماني.. ..دعيني أعش سباتي العتيق، وحلمي الغريق ..
– تمهلي يا دريشة فللبحر حكايا وشكاوى يود أن يبوح بها إليك، لقد اشتاق إلى إنسان عينك، فما عاد ملحه يطهره من النجس، إنه يعاني غربة الروح .. ومضى سادرًا فاقدًا لبهجة الحياة .. لقد زهد الناس فيه، فما عادوا يبوحون له بهمومهم، وماعادوا يهدونه مواويلهم، وما عاد العشاق يرمون إليه برسائلهم ويسرون إليه بأسرارهم، وما عاد العباد يصلون على رماله يبتهلون إلى المولى أن يهبهم من أرزاقه وداناته .. لقد أضحى مرتعًا لفرادى عابثين، وطغى على صوت أمواجه أصواتٌ نشاز أزعجت نوارسه وأفزعت أسماكه.
– الكل سيغرق ما لم يفق إنسان الخليج، ولن يعصمه من طوفان الغدر عاصم إلا من اعتصم بحبل الله المتين، الويلُ لمن يوقظني قبل عودة الربيع، وقبل عودة نوح .. لن أبقى دريشةً بعد أن يعود لأنني سوف أهبه مصاريعي ليصنع ألواح النجاة .. مكاني هناك في السفينة؛ حيث الأمن والصلاة، وحينما تستقر السفينة على الجودي ربما أعود.
فوزية الحبشي
اختي فوزية كم هناك معاني سبرت اغوار الامكنه وغارت فيها جهدا بالم يعتصر الوجود برمته وكذا روح تتفانى في كل شىء, ان تلك الدريشة التى نفذ منها ضوح وضاء فلمع بارقا في كل شيء, ولكن للاسف ! قد تغيرت الملامح وتبدلت الامنكنه واقفهر الوجود فلم يبق ما نالفه الا ريش الببغاء, ولكن هو الاخر استبدل صوته .
عوضه بن علي الدوسي
saudi.5@hotmail.com