نفق ولد من رحم حرب الصرب الغاشمين على مسلمي البوسنة و تم حفره من تحت بيت إحدى سيدات سراييفو ليكون الشريان الذي يمد المدينة التي عزلت و حوصرت و عذبت لسنوات بالحياة و البقاء .. تلك قصة قرأتها مؤخرا عن تلك المدينة التي شهدت إبادة جماعية و تنكيلا بالإنسانية تنفطر له قلوب البشر ..
و كلما تأملت و سافر فكري عبر الخيال أتساءل بحرقة ما فائدة الحروب .. و كيف يقوم إنسان لديه بقية من نهى و قليل من إحساس بإخماد نفس أحدهم و يكون سببا لإطفاء جذوة حياته.. ! هؤلاء ألا يأرقون؟ و إذا أرقوا ألا يتذكرون و على ما جنته أيديهم يبكون! و إذا بكوا ألا يندمون و يتوبون! أي نوع من الجلود يغلف أجسامهم حتى بات الحس لديهم معطلا أم أنه وكما يشاع بأن القاتل يبكي أول مرة ثم تكر المسبحة و يتبلد حسه ويموت قلبه، لعل ما اكتسبوا ران على قلوبهم كما وصف كتاب الله. .
سرحت بفكري وتخيلت مئات المشاهد لأناس يرتادون ذلك النفق فهذا جريح يرجى لحاقه قبل الموت و ذلك مريض بيتغى علاجه و تلك امرأة حامل لم يمهلها وليدها لتصل لنهاية النفق فاندفع رغما عنها منزلقا في أخدود الهروب من جرم الإنسانية فصرخ صرخته الأولى لاترحيبا بهواء شق صدره بل احتجاجا على غدر البشرية.. كم من أسر تشردت وعوائل تفرقت و أبناء فقدوا الهوية و الانتماء .. كم من عين جحظت رعبا من صخرة ثقيلة جراء قذيفة ضغطت على رئة هارب فتحول كومة من لحم وعظم و رحل و بقت عيناه مفتوحتان تؤرخان طغيان الطغاة و فجور الفجار .. كم من عيون من دماء روت جنبات ذاك النفق و اختلطت بها دموع الفارين و البائسين و بالمقابل كم من ابتسامة رائعة أشرقت على قسمات أحدهم حين وصل إلى بقعة ضوء الشمس في آخر الأخدود . . ليس من جرم أبشع من أن يضطر الإنسان أن يستبدل دفء الشمس بظلمة النفق ..
تلك أنفاق الحرب التي تحفر تحت سطح الأرض .. لكن قياسا هناك أنفاق أخرى تحفر في غياهب نفوسنا دون أن نعلم و أحيانا بعلم منا و دراية ..
فاليأس و الهم و الكآبة و التخاذل و السلبية و الحقد و الحسد و الخيبة و الإحباط و الكره و الشر و الظلم كل ذلك يشكل مايشبه الجيش الصربي الغاشم الذي اضطر المهددين بحفر نفق باطني للنجاة و الحياة و لايدرون حافرو نفق النفس بأن ذلك النفق قد يعرضه للويلات و الدمار النفسي.. فنجد كثيرين قد تحولت طموحاتهم وأحلامهم و أمنياتهم اذا لم تتحقق إلى أخاديد تشرخ استقرار النفس يدفن فيها المحبط آلام يأسه وانهزامه فما يلبث أن تموت كل الآمال و تبقى الآلام حية في سجن نفق مظلم تؤرق صاحبها بدل أن تريحه. .
و كم من ظالم ظلم سواه بمعاملات او تصرفات او أقوال أو أذى من سحر أو حسد أو وشاية أو قذف أو سوء يدخلون الناس انفاقا من عذاب ويكررون ممارسة الشر يوما بعد يوم حيث تشكلت لديهم ذات بلادة القاتل المرتزق ..
و هم أنفسهم مسجونون في معتقلات وأنفاق من الشر و الحقد و البغي داخل نفوسهم المريضة وضمائرهم النافقة. .
إحذر أن يسجنك أحدهم في نفق او تكون سجانك في داخل نفسك فيتحول ذاك النفق إلى لحد تدفن فيه و لا عزاء لموتى الأخاديد ..
ابتسم .. تجاوز .. توكل .. تهيأ.. إن سقطت قم قفزا و إن قيدت لاتستسلم فالقيد لايحبس سوى المتخاذلين ..
وهج :-
سأبقى واقفا مادمت حيا ..
و لن تحنيني قسوة الأيام
و يبقى معصمي بالقيد فيا ..
يظلل هامتي والله حامي
لا أبغين على الخلق شيا ..
ولا أحفر الأنفاق بالأسقام
د.فاطمة عاشور