١
يمكن القول إن المتنبي هو من ابتكر علاقة الريح بالشراع من منظور شعري ، ففتح فضاء هذه الجدلية لمن بعده . كان المتنبي يتحدث عن حسّاده ضمن قصيدته الذائعة “بم التعللُ؟” و كان في سياق الترحّل و السفر ، إذ كان لا يجد ما يتعلل به ، لا أهل و لا وطن ، و لا نديم و لا كأس ، و لا سكن ، كما ذكر ، و هذا يعني أن تجربة المتنبي كانت نتاج سفر حقيقي هو الذي أنتج قلقه ، فكانت هذه الريح تحمله إلى حيث يشاء ، و برغم ذلك لم يسلم في طريقه المسافر من حاسديه إلى نهاية رحلته التي ختمت بقتله على يد فاتك الأسدي ، ما يعني أن الرياح التي افترض المتنبي أنها تسير عكس ما يشتهي حساده سارت هذه المرة عكس ما يشتهي ، لكن قوله الشعري بقي راسخا لم يتغيّر ، فسواء كان هو المعنيّ به أو حسّاده ، فإن الرياح تجري “بما لا تشتهي السفن”.
هذه العلاقة التي تأسست على فعل الريح و جعلها “أصلا” ضد رغبة السفن ، أو السَّفِنُ / الملاح ، مع انحيازي إلى الاختيار الأول لتوافقه مع الرياح و كثرة مناوئي المتنبي في مقابل السفن المبحرة بأمنيات أصحابها ، إضافةً إلى المجاز الذي يشيع الرغبة في الجماد .
أقول هذه العلاقة تبدو كاشفة عن مرحلة شعرية كاملة هي تجربة المتنبي في فضاء يتربّص به من كل جانب ، و لهذا فإن الرياح التي تتصرّف حسب رغبة الشاعر ضد خصومه تأخذ بعدا رمزيا معادلا لكل الأحداث التي تسير في صالح المتنبي ، و هي في الأخير تنتمي لحدث واحد هو “الحدث الشعري” الذي صنعه المتنبي و سافر على متنه سفرا مجازيا و حقيقيا في الوقت نفسه ، و هذا الحدث يأتي موازيا للريح التي عناها في قوله :
على قلقٍ كأنّ الريح تحتي / أصرّفها جنوبا أو شمالا .
و معلوم أن المتنبي لم يكن يتصرّف في شيء باقتدار و براعة كما كان يتصرّف في شعره ، فهو الوحيد الذي كان طوعه في رحلته المسافرة عبر المفازات و الفضاءات الشعرية ، و في قصائد المتنبي ما يثبت أنّه صاحب “الشّرّد السائرات” اللواتي “لا يختصصن من الأرض دارا” ، فهنّ على حدّ قوله :
قصائد إن سرن عن مقولي
وثبن الجبال و خضن البحارا .
٢
و في تحوّل آخر للريح و علاقتها بالسفن يفتتح محمد الثبيتي مرحلة جديدة تغيرت فيها جهة الشعر فتغير بذلك على مستوى الرمز اتجاه الريح ، و صارت العلاقة عكس اتجاه ما افترضه المتنبي في مثله الشعري السائر . لم تعد السفن هي التي تشتهي ، بل انتقل الفعل هذه المرة إلى الريح في مواجهة الشراع :
مضى شراعي بما لا تشتهي ريحي ..
هنا يأخذ السفر بعدا رمزيا كاملا دون مناصفة مع الحقيقة كما هو الحال مع المتنبي الذي كان سفره واقعا من جهة و مجازا شعريا من جهة أخرى .
الثبيتي هنا يطمس وجه السفر الحقيقي ليبقي وجهه المجازي عبر القصيدة فحسب ، و هو سفر مغاير لاتجاه السياق الشعري ، إذ يتجه شراعه المعادل لتجربته الشعرية عكس اتجاه الريح : السياق الشعري .
و نلحظ في قصيدة بوابة الريح أنها تتناص مع فضاء المتنبي في علاقته مع الريح سفرا و إبداعا ، فالمتنبي يطلق شعار رحلته :
على قلق كأنّ الريح تحتي.. أوجهها جنوبا أو شمالا
و الثبيتي يرفع عقيرته :
قصيدتي حيثما ينتابني قلقي .. و موطني حيثما ألقي مفاتيحي .
و لست في حاجة هنا إلى التذكير أن هذا البيت ضمن قصيدة تحمل عنوان بوابة الريح ، ما يشير إلى وعي الشاعر بهذه الدلالة التي تجعله في مواجهة الريح يدلف من بوابة جديدة و يسافر في فضاء رمزي يهمني في هذا السياق الاكتفاء بالإشارة إليه فحسب .
٣
و يستمر السفر لا ينتهي و لن ينتهي مذ تحوّل إلى سفر مجازي عبر فضاءات الشعر ، ليأتي شاعر ثالث في إشارة إلى احتمال ميلاد جديد لجيل شعري أفاد من التجارب السابقة – عموديا و تفعيليا – و أعاد القصيدة العمودية إلى ألقها القديم بروح شاعرة و مجازات جديدة ، فكان جيلا توفيقيا بين شكلين مختلفين ، أحدهما قديم أصيل و الآخر جديد قد أوشك على القدم .. فاحتاج إلى تجديد و إعادة إنتاج .. هنا يطل الشاعر سلطان السبهان من خلال مجموعته الشعرية ( يكاد يضيء ) ليعبّر مجازيا عن هذه الرحلة الشعرية التي لا تنتهي ، لكنه في المقابل يختار موقفا وسطا بين السفن و الرياح بحسب المتنبي ، أو بين الريح و الشراع بحسب الثبيتي ، فيستثمر فكرة الوسط المرفوع ليستلّ الملاح من بينهما ، أو لنقل في المعادل الرمزي الشاعر ، كي يكتمل مثلث الرحلة الشعرية ، التي بدأها المتنبي حقيقة ، و خاضها الثبيتي مجازا ، و أرادها سلطان السبهان سفرا سرمديا للشاعر بصرف النظر عن علاقة الريح بالشراع :
” سفري الذي لا ينتهي
لن ينتهي..
و الثابتان : تردّدي و تولّهي
جرت الرياح بما اشتهته سفينتي
و تعانقا ..
لكنّني لم أشتهِ !”
إن الشاعر هنا يعمّق فكرة سابقيه من خلال التناص عبر صورة الريح و الشراع ، ذلك أن الفكرة في الصورة منذ المتنبي قائمة على عدم التصالح ، أي عدم الوصول ، و هي كذلك عند الثبيتي الذي لم يصل هو الآخر ، إذ استمرت العلاقة متوتّرة بين الريح و الشراع رغم تغيّر زاوية النظر و الاتجاه ، و كذا يبدو الأمر مع شاعر ” يكاد يضيء” ، حيث تعانقت الريح مع الشراع و بدا أن الأمر بلغ غايته و وصل إلى نهايته ، لكن الشاعر هنا تدخّل ليزيد العلاقة توتّرا ، أفضى بالسفر الشعري إلى أن يكون ترحالا سرمديّا لا ينتهي ولن ينتهي !
سعود الصاعدي