النافذة الأخيرة – طاقة
الطاقة هي: كل نافذة على شكل دائرة أو قوس، ثم أُطلقت بعد ذلك على جميع النوافذ بأشكالها المختلفة في بعض دول المغرب العربي والحجاز. وقد ورد ذكرها في (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) للقزويني، وفي(رحلة ابن جبير الأندلسي) وفي (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) للأزرقي، وجذرها اللغوي: طوق. وتجمع على:طيقان، وطيق، وطاقات.
استيقظت طاقتنا جذلى وأرسلت إليه تقول:
حسنًا سأتعلّم أن أغلق نافذتي وأن لا أتركها مفتوحة دائمًا.. ما كنت أظنُّ أن شيئًا سينفذ إلى الدّاخل غير الهواء والضوء، وإذْ بك تقتحمني وتطوّق ذاكرتي بطوقٍ لا ينفكّ .. طوقٍ جميلٍ ساحرٍ بديعٍ كطوقِ الحمامة ..
حسنًا .. سأروّض قلبي وأعلّمه كيف يغضّ الطرف عنك حينما يلوح طيفك، وسأدرّب قلبي أن يسدل السِّتار عليك وقتما أشاء، فلن تسطو عليّ مرةً أخرى … لا بدَّ أن تتعلّم يا هذا آداب الاستئذان وأصول الاقتحام…
هل تعلم يا هذا، يا قريبًا يابعيدًا، ياحقيقةً ياخيالا أن طيفَك علَّمني الكتابة؟! وأني استطعت أن أنسج من خيوط الضوء المتسلل خلالي حروف رسائلي إليك؟! هل تعلم أني أحببت الكتابة لأن لها علاقة متواطئة بك؟!
ما أجرأك إذ يعبر طيفك! تقتحمني كما يقتحمني الفجر، تتسلل بضوء خافت لذيذ، فتزقزق عصافير النشوة في أنحائي وأركاني، في حروفي وكلماتي … تملأني عبقا وردا ياسمينا… تكسوني جاذبية أخّاذة تغيب فيها نفسي عن نفسي، وأرى لي وجها في المرآة غير وجهي، تتبدل فيه كل ملامحي .. حتى صوتي أكاد لا أعرفه… ما أتعب الكتابة !!
دعوتُ الله أن أُشفى منك ومن الكتابة.. دعوتُ أن يكون طيفُك حلالًا..صفوًا زلالًا.. ففي كل زمن تعبق فيه بالذكرى لابد من عملية الكنْس والتّطهير لكل الشوائب المحيطة بك، أطهّرها من وهج الرغبة … فلقد أحببتك روحا، وأريدك أن تبقى روحا وكفى، لا محل فيه لنزغٍ من الشيطان أو طرْقٍ من الجان..
الكتابة هي مياديني للتحرير منك، فما تفعله في الخيال هو أشبه بثورة عارمة، ما أبلغ العرب حين عبّروا عن الكتابة فصفوها بالتحرير!! الكتابة هي العتق الحقيقي من ربقك، وهي معركتي التي أخوضها لأنجو من طوقك.. وليس هناك معركة بلا ثمن …
يا روحًا تسكن روحي، متى جئت؟ كيف تسللت واخترقت ؟! متى كان أول خاطر هام بك؟!
يا طوقًا يا شعرًا يا عذابًا يا سؤالًا هاجمني وأنا عزلى بغير سلاح .. كلماتي هي رسلي إليك تبعث إليك من فيوضات الوجد ما يرقى، ما زاغ القلب وما طغى ولكنه نبضٌ على حد الطُّهر قد استوى ..
حسنًا.. لقد أبقيتُك في ذلك الركن السَّحيق من فؤادي لتغذِّي فيّ عروق الكتابة وكفى .. أستلهمك حين أبدأ طقوس الكتابة .. أشيِّدك أمامي تمثالًا، وأمسك بريشتي كي أرسمك نصًّا حيًّا نابضًا مُغرمًا… وحين الانتهاء والانتشاء أبعثرك .. وأمحو أثرك.. وأسعد بالنصِّ المولود بعدك، أحمله بين ذراعيّ.. أستدِرُّ الّلبن من حروفه الغضة الطّرية، إنَّه يغذِّيني بعد ما يضنيني.. وما صنيعي إلا كصنيع ذلك الوثني الذي يصنع صنمه من التمر بيديه ليمارس طقوس العبادة فإذا جاع أكله !! أفأشرك بعد التوحيد؟! معاذ الله.
يا طوقي يا نبضي يا شعري، كفرْتُ بك، وأعلم بأنّك باطلٌ باطلٌ باطل، ولكنّك موجودٌ موجودٌ موجود. في القلب معقود … تبخل وتجود .. تنأى وتعود …تنفذ وتسود ..
حسنًا هذه آخر رسائلي إليك …
وددتُ أن أخبرك فيها أنَّ طوقك الآن ملك يميني، وأنَّ طيفك ملك خيالي، أستلهمك متى أشاء.. وأبعثرك متى أشاء.. وأني من يختار اللحظة، ويخاتل العبرة.. وأني لا أتشظى بالزيارة .. في رصدها بالكلمات على مهارة ..
الآن أقول لك: سلام على عبورك الشجيّ، وطيفك الجني، ونبضك الخفي.. سلامٌ عليك ما بقي طوق على حمام .. والسلام.
فوزية الحبشي