(لا أطمح للوصول للقمة .. فبعد القمةِ سَفْح) شدّتني كثيراً تلك العبارة التي قِيلت لي من قِبَلْ أستاذة مبدعة متميزة بنجاحها… فتساءلت بين خلجات نفسي ماذا بعد القمة؟!
عندما يحس الإنسان بشعور غريب يدفعه لفعل المستحيل حتى يصل لحلم حياته .. وعندما تختلط مشاعره بصورة مموجة كلوحة فنان رُسمت بطريقة مبهمة، غامضة، ممزوجة الألوان .. وعندما يخطو أولى خطواته كطفل صغير يقف أسفل السلم وينظر عالياً!
عندها سيشعر بقوة وإصرار داخلي للوصول للقمة، وهاهو يحارب ويناضل لبلوغ حلمه وينظر لأعلى قمة الجبل ويهتف في سره “نعم أستطيع” ثم يمضي،
وأخيراً يتحقق حلمُه ويصل للقمة..
فماذا بعد الوصول؟! سيدرك حينها أن بعد القمة سفحاً عميقاً، مخيفاً.. وأنَ بعد الوصول انحداراً.. وأن لكلِ شيء نهاية … ولكن أليست الحياة جميلة تستحق منا المغامرة لبلوغ تلك القمة لكي نشعر حينها بنشوة النصر ولذة النجاح؟
الحياة رحلة قصيرة، تبدأ بقصة ولادة وتنتهي بقصة وفاة، وما بينهما مراحل عمرية انتقالية مليئة بالبياض والسواد، بالجمال والقُبح، بالأزهار والحجارة .. لابد أن نخوضها جميعاً شِئنا أم أبينا، والناس في ذلك الخوض أجناس وألوان …
فهناك من يئِسَ من حياته وتركها تسير به كيفما تشاء وسط حجارة قاسية وما يزال يقف بينها مكتوف اليدين، ينظر لأعلى قمة الجبل عاجزاً عن تحقيق أي إنجاز في حياته، ويُقنِع نفسه بأنه ليس وحده، بل كل الناس حوله يتعايشون مع نفس تلك الحجارة.
وهناك من وقف موقف المتربص الحاقد، فأخذ بجمع الحجارة وقذفها على كل من يسبقه، دون محاولة منه للتقدم ولو خطوة.
وهناك من حمل كل حجر تم قذفه به ليضعه في طريقه ويصعد عليه حتى يصل لحلمه، وهناك من انتظر تقدُّم غيره ليصعد على أكتافه دون أي اكتراث لجهده!
وماذا بعد الوصول ..
هنا يجب أن تكون للإنسان بصمته لأنه حتماً سيغادر تلك القمة العالية التي وصل إليها كما غادرها سابقوه…
فالنجاح الحقيقي ليس بالوصول للقمة إنما بالعطاء فيها لتبقى السيرة العطرة والذكر الطيب للإنسان، فقد خلقنا الله عز وجل لا للبقاء في الأرض، بل لعمارتها وانتقالها لغيرنا من الأجيال، وتلك سُنة الله في خلقه.. قال تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) هود (٦١)
فكم من إنسان غادر تلك القمة وقد ملأها سواداً وظلماً وجوراً، ولكنّ سهام الليل لا تُخطئ، فهي تُرسَل سريعة ثاقبة من بين سبع سماوات لتصل للملك العادل – فهل نجا؟!
وكم من إنسان وصل للقمة واستراح عليها ولم يكُن له أي وجود سوى أنه شغل حيزاً من هذا العالم الكبير، متمنياً البقاء الأبدي السرمدي – فهل بقي؟!
وكم من إنسان ترك تلك القمة خضراء تملؤها الأزهار الجميلة، وتتسابق له الأدعية النقية العذبة وتلتحف السحب صعوداً إلى السماء ليُستجاب لها – وقد أُجيبت.
يجب علينا جميعاً أن نضع أمام أعيُنِنا حلم الوصول للقمة، فنبينا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم كانت همته عاليةً وطموحه عظيماً، ففي الحديث المرفوع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه يُفجّر أنهار الجنة” إنها القمة … لم يرضَ حبيبنا ورسولنا محمد لأمته بالدرجات الدنيا من الجنة بل أعلاها.. فالوصول إلى القمة ليس بالأمر المستحيل، لكن الأهم منه هو العطاء فيها.
كلٌ منّا عليه قبل أن يُفكر بالوصول لحلمهِ أن يضع هدفاً عظيماً نصب عينيه ليحققه فوق تلك القمة، ولا يعطي وعوداً قبل الصعود إلا وهو قادر على تنفيذها ويبقى أثرها بعيداً في حياته وبعد مماته.
ولا ننسى … أن بعد القمةِ سَفْحاً.
0