تقع مدينة مكة المكرمة في الإقليم الغربي – الحجاز – من المملكة العربية السعودية ما بين خطي عرض 20 وِ22 ْ شمالاً، وخطي طول 39.20 و 40.30ْ شرقاً. كما تقع في الجهة الشمالية للمنطقة المداريـــة , وهي أيضاً تمثل نقطة التقاء تهامة بالجبال التي تحيط بها من جميع الجهات، مما جعلها تتشكل من مجموعة من الأودية هي منافذها في اتجاه البحر من الجهة الغربيةK وترتفع عن سطح البحر ما بين 250 إلى 350 متراً من الغرب إلى الشرق ( بما في ذلك المشاعر المقدسة، وتبعد مدينة مكة المكرمة عن مدينة جدة حوالي 75كم، وعن المدينة المنورة حوالي 420كم، وهي العاصمة المقدسة للمملكة العربية السعودية ومقر إمارة منطقة مكة المكرمة .
ولموقع مكة المكرمة أهمية كبرى، إذ إنه يمثل منتصف خط القوافل القديم بين اليمن وبلاد الشام، وهي قلب العالم ومركز الكرة الارضية ، فيها بيت الله الحرام والكعبة المشرفة، وفيها ولد نبينا سيدنا محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام، وفيها نزل الوحي بغار حراء، وإليها قبلة أهل الأرض كلهم. وجعل الله عز وجل ثواب الأعمال فيها أفضل من ثوابها في غيرها، والصلاة في المسجد الحرام، بمائة ألف صلاة .
نشأة مكة المكرمة
قبل حوالي ثلاثة آلاف وتسعمائة عام، وتحديداً في سنة 892ق.م، وصل إلى مكة المكرمة أبو الأنبياء الخليل إبراهيم عليه السلام ومعه زوجته هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام وكانت مكة المكرمة في البداية قفراً مهجوراً تعرف بانخفاض أرضها وارتفاع جبالها وندرة مائها (واد غير ذي زرع). هي كما وصفها القرآن الكريم (واد) لكن العناية الإلهية أرادت أن يكون لهذا الوادي شأن عظيم. وعندما أمر الله إبراهيم عليه السلام ببناء الكعبة فيه صارت بلد الله الحرام الذي يأتيه الناس من كل فج عميق يأمن فيه الخائف، ويجبر فيه الكسير، وينصر فيه المظلوم، وتجبى إليه الثمرات من كل مكـــان. قال تعالى : ( رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ )
“البقرة 1266” .
وقد ذكرت كتب التاريخ أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قدم من الشام ومعه زوجته هاجر وابنه الرضيع إسماعيل إلى واد غير مأهول لم يسكن من قبل ولم تتوافر فيه أهم الاحتياجات الأساسية، فترك زوجته وابنه الرضيع في ذلك الوادي عند دوحة في المكان الذي انبعثت فيه بئر زمزم وليس بمكة أحد ولا ماء ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم مضى إبراهيم عليه السلام منطلقاً فتبعته أم إسماعيل، فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنسي ولا شيء؟ فلم يرد عليها. فكررت عليه القول مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له : أالله أمرك بهذا ؟ قال : نعم. قالت : إذن لا يضيعنا الله تعالى، ثم رجعت. فانطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه الكعبة ورفع يديه ودعا بهذه الكلمات (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)
وعادت هاجر تحمل ابنها وتنتظر مصيرها المجهول وتحسو من الماء القليل الموجود معها وتسقي وليدها حتى نفد الماء وعطش ابنها، فقامت تبحث عن الماء فصعدت إلى الصفا حين رأته مشرفاً فشاهدت المروة وظلت سائرة بين الصفا والمروة، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فذلك سعي الناس بينهما , فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فقالت : قد أسمعت إن كان هناك غوث، فإذا هي بالملك عليه السلام عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه : وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس : قال النبي عليه السلام: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً . قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال الملك لا تخافوا الضيعة فإن ها هنا بيت الله تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله , وكان البيت مرتفعاً كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقه من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة .
ولقد شوهدت أسراب الطير تحوم حول الماء، فاجتمعت القبائل المجاورة وهم على يقين تام بأن هذا الوادي ( قفر ) يخلو من الماء أو الأنس، فاستوطنته القبائل وسكنوا الوادي فأمر الله إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل ببناء البيت، يقول الله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة: 127. وقاما ببناء البيت على قواعده وهكذا نشأت مكة المكرمة، فببناء البيت كان أول استيطان بذلك الوادي المقفر .
مرت قرون طويلة على دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وما زال الناس يفدون إلى مكة المكرمة للحج، بالرغم مما لحق بالحنيفية دين إبراهيم من شوائب، فأراد الله بعظيم قدرته وفيض كرمه أن يظهر دينه الحق مما علق به، فبعث بعد انقضاء خمسة وعشرين قرناً من الزمان على دعوة إبراهيم عليه السلام وتحديداً في 10 أغسطس عام 610ﻫ، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وخاتم الأنبياء والمرسلين .
لقد زادت مكة المكرمة بمبعثه صلى الله عليه وسلم مهابة على مهابتها حتى بلغت أعلى مراتب القدسية، وظهر أثر ذلك على حياتها المكانية، حيث اختط صلى الله عليه وسلم بأمر الله عز وجل حدوداً جغرافية لحرم مكة المكرمة شرفها الله، لا يدخلها إلا مسلم، ومن دخلها كان آمناً، يحرم القتال داخل إطارها، بل لا ينفر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا تلتقط لقطتها. إنها حدود جغرافية تقف أمامها عبقرية المكان عاجزة عن الإتيان بمثلها.
أ.د. اسماعيل كتبخانة