من يتفكر في هذه الآيات المباركات من سورة البقرة بعمق بصيرة وإيمان يستشعر حالنا المعاش اليوم، علما بأن السياق الرباني جاء على لسان اليهود والنصارى.
يقول المولى الحكيم:
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
[سورة البقرة 109 – 115]
ما أجمل كتاب الله المحكم وما أعمق حكمته العابرة بقيمتها وهدفها للزمان والمكان.
فالله أمرنا بالعفو والصفح لمن أراد أن يردنا عن إيماننا حسدا من بعد ما تبين له الحق، ولم يأمرنا بمحاربته وعداوته، هذا ابتداء،
ثم أراد منا أن نكون عمليين في التعاطي معه ومع غيره؛ حيث نصت الاية التي تليها على أن نقيم الصلاة، أي أن نكون قريبين إلى الله بقيمنا وأرواحنا صادقين معه؛ لأن ذلك هو المحقق للبعد عن الفحشاء والمنكر، وأن نكون فاعلين في المجتمع متلمسين لاحتياجات الناس بأداء الزكاة وتقديم كل خير للمجتمع الذي هو خير لأنفسنا،
هكذا أراد الله أن يضرب لنا مثلا اليوم بمن هو الصالح القريب منه، لافتا النظر بقطعية ويقين في الآية التالية إلى أن الجنة يستحقها كل من آمن به حق الإيمان عملا بإحسان واتباعا لسلوك قويم، وليست محصورة بمسميات دينية أراد كهنتها وعلمائها تضييق أبوابها عليهم، فهي ليست لليهود ولا النصارى ولا حتى للمسلمين اليوم وإنما هي لكل من أسلم وجهه لله وهو محسن.
ثم تأمل قوله تعالى:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)
اشير ألى أن الذهن المسلمة قد بات راسخا في وعيها أن المقصود بالمساجد ومفردها مسجد أي هو المكان المخصص للعبادة لدى المسلمين كما هو الحال في المعابد اليهودية والكنائس النصرانية.
والواقع أن هذا التفسير مخالف في دلالته لمراد النبي صلى الله عليه واله وسلم حين قال: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا؛
وكانه أراد أن يقول لنا إن شريعته جاءت؛ لتحرر العباد من القيد المكاني في عبادتهم لخالقهم إلى الفضاء الكوني.
ومن هنا جعل الله الأرض كلها مسجدا وطهورا لخلقه أي مكانا طاهرا مباحا يسجدون فيها لربهم شكرا وامتنانا وتقربا.
ومن هنا يمكن فهم قول الله ومن أظلم ممن منع مساجد الله اي أرض الله، أن يذكر فيها اسمه بتحقيق ما أراد الله من عدل وحق ومساواة وكل ما نصت عليه اسماؤه الحسنى من قيم وخلق عظيم، ولم يكتف بذلك بل سعى في خرابها بفعل كل سلوك مناقض ومخالف اتباعا لهوى شيطاني، فأولئك كما أخبر ربنا لهم خزي في الدنيا وفي الآخرة عذاب عظيم.
الشاهد هنا كيف أن النص القرآني جاء ليحرر الفرد من كل قيد أيا كان مرجعه، ولن يتم ذلك إلا بإعمال حالة التدبر التي أمرنا الله بها، بعيدا عن أي إسقاط تاريخي أو مذهبي وحتى ديني ناتج عما تراكم من فهم بشري .
حقا ما أجمل قول الله لمن يتدبر
ولنا عودة.
د. زيد بن علي الفضيل