قصيدة (لحن الكرامة) للشاعر حسن الزهراني التي تضعنا أمام أنساق شعرية منتظمة ومتضافرة وتنساب صورها بإيقاع شعري لافت, والقصيدة تدل على حبه للمكان والاعتزاز به، فللمكان في نفسه مكانة سامية ورفيعة ويشعر فيه بالفخر والاعتزاز والشرف, ولكون القصيدة موسومة بقيمة فخر فإن الكرامة هي ما يستحقه ذلك المكان في هذا الجزء من الوطن الغالي, وجاءت على هذا النحو لأن المكان في نظره خارق عن العادة, وهو أقل ما يسديه له هذا كاستحقاق اعتيادي لتلك الأمكنة التي ربت شامخة في نفسه، كما هي في الواقع والوجود .
نمّق الشعرُ من حروفي وِسامه
فبدا العِشق غايةٌ في الوَسامه
إن الكرامة التي اختارها اسمًا للقصيدة ويظهر رونق عِشقه مليحًا مبهجًا غايةً في الوسامة فإن ذلك لم يأتِ من فراغ فقد جاء نصًا في ثنايا قصيدته, وعندما يسبقه إيقاع موسيقي وصوت شجي يُتغنى به تألفه كل الأسماع (اللحن), فإننا لاشك ننصت لهذا اللحن ولغاية من وراء لفظه، ثم ينبثق لنا صورًا كثيرة أقل ما نستحضر منها صورة شجرة (الكرمة) بعصامية جذعها الشاحب ونظارة عنقودها الزاهي, وهي تمتص نهد الغمام من على ربى الباحة لتمنح كل نصيبها من الماء لصناع الكرامة.
وخيالي فراشةُ من ضياءٍ
(وكرومٌ) تمتص نهد الغمامه
ولم يتوقف عند هذه الصورة ومعانيها الجميلة، فقد حلق الشاعر بخياله عنان السماء فأضحى متنقلًا يرفرف في كل الزوايا كفراشة من ضوء تكشف ببهاء وضاء ذلك الوجود وبكل أبعاده.
إن قصيدة لحن الكرامة تُثير القارئ أو المتلقي فيشعر بالزهو وتجعله بحالة من الانتشاء ليرقى معارج من العلو بمعنى مموسق وعميق يدفع نحو الانفعال ليثير فيك الكرامة والعزة حد الزخم؛ وكأن الشاعر يريد من المتلقي أن يعيش اللحظة الماتعة بثقة واعتزاز, لحظة الانتشاء والفخر اللذين يعيشهما في نفس المكان وبمدد منه يقول:
كل طودٍ هنا منارةُ فخرٍ
رفع المجدُ حولها أعلامه
إن الشاعر يصور كل مكان عالٍ على أنه منارة فخر, نعم فهو طود عالٍ وحاجز كبير وصعبة دروبه, لكنه شفيف وخفيف ماثل كالروح السابحة في فضاء النفس, لأنه تراتيل عشق أزلي ويؤكد ذلك أن نسماتُ المساء فيه, ألحان سحرٍ, وينثر فيك فرحًا هزجًا لا تعرف بَعده نكد, فينعكس الوجود برمته إلى شدو وفخر واعتزاز.
كل (تلّ) هنا قصيدة شعرٍ
كل (وادٍ) رواية أو مقامه
وهنا نرى اختيار الشاعر للمفردة, وكان لها دلالتها مما أضفى وقعًا وأثرًا بالغًا في نسق القصيدة؛ لتكتنز أبعادًا جمالية أخرى قل لها نظير أو مثيل.
أنا من (دُرة الجنوب) ونبضي
صبحُ عشقٍ . وبلبل . وبشامه
فالأشياء والموجودات في الواقع غالبًا ما تبدو مألوفة أو حتى ساكنة مما يجعلها غائبة عن البعض أو عصية ومتمنعة عن البعض الآخر ممن نظرتهم اعتيادية؛ لأنها لم تنعكس كوجود جميل رائع إلى جوف الرائي والمتمشهد وبشاعرية مثيرة ومدهشة حتى تفيض بالمعاني والدلالات لتخرج ببوح آخر له دلالته الفنية والجمالية وناظمة لكامل الوجود كما يقولها وينظِمها الشاعر في سياق قصيدته؛ والسبب أن الشاعر يستقبل الموجودات بقلبه ووجدانه وحسٍ شعوري مختلف فتتحرك الصور بناء على تصوراته وحتى رغباته وخيالة الجامح وتحلق الصورة في المكان بأبعاد متعددة ومختلفة فتتخذ أشكالًا جمالية وأبعادًا أخرى لا يراها بهذه الكيفية إلا من اقترب من الأمكنة وجدانًا وحسًا وشعورًا فيفيض بالمكان جمالًا وروعة, وإلا خلاف ذلك تظل الصورة صامته ساكنة رتيبة وحتى مخطوفة ومبتعدة جدًا عن النسق الجمالي الحالم, فالشاعر حسن الزهراني لا يخفى انه أقام علاقة حميمية مع المكان وتصالح معه حد الألفة والعشق, وتشبث به كتشبث طفل بأمه يوم فزعه, ليبحر بعد ذلك في عوالم الوعي واللاوعي في المعقول واللامعقول ليصل بنا إلى هذا المعنى الجميل السابح في فضاء الوجود بتعدده وكيفيته المختلفة حتى أننا نلتقي معه في المجهول وما كان معتمًا ذا ضبابية قبل القصيدة, ونرى الأشياء وما خلف الأشياء, ونرى المعرفة نبعت من جنبات المجهول والمختبئ لتتجلى متلألئة, واتضحت لنا كشرق الشمس الزاهي في نظر العاشق من خلال المفردات المختارة والمنتقاة, تلك الكلمات التي اكتسبت تواشجًا مع بعضها البعض, وقد أوحت لنا القصيدة بمعانٍ كثيرة لم ندركها أو نراها بهذا المعنى المثالي من قبل فتخلل كل بيت جملة من المعاني التي سَمَتْ بالنفس الإنسانية حد الإيمان وبروحانية عذبة مستطابة كمنسك دائم لا ينفك منه الشاعر لعشق المكان.
أَذن الطُّهر مُحرِماً من ذراها
ولسان الإيمان يتلو الإقامة
ثم صلى(السّموّ) جمعًا وقصرًا
في رباها ولم يضع إحرامه
ولهذا نذرت روحي فِداها
من روابي السّراة.. حتى تِهامه
وهذا الإبداع الختامي في نهاية القصيدة لاشك منفتح بمعانٍ جديدة وغير متوقعة أضمر بعض موجودات الواقع وصورها برؤيته الخاصة التي زادت من نبض قصيدته وحيويتها.
عوضة بن علي الدوسي
ماجستير في الأدب والنقد
استاذ عوضه الدوسي … شكر الله فضلك حينما ابرزت هذا الجانب المضيئ في الشعر والذي قد يغفل عنه البعض لعدم الغوص في بحور وامواجه المتلاطمة ..لكنك استعطت وبكل ثقة واقتدار أن تبرز اهم ملامح الشعر ومقوماته اللذين يؤسسان لنظم الشعو زيا كان في وطننا العزيز …فقد وضحت ما كان بعيدا عن الوصول الى حيثياته من خلال استذكر واستشراف ما لذ وطاب من بعض الإستدعاءات لذلك الشعر الذي اصبحنا من اشد المتذوقين والمتابعين له.