أ.د. عبدالله عيضة المالكي

إطلالة أندلسية

بصحبة أمير الأدب العاطفي ابن حزم الظاهري الأندلسي، وافتراءات الجهال عليه.
يقول ابن حزم:
لقد عرف العرب الحبّ وكتبوا عنه كثيرا
وفضاءات الحب والعشق لا تٌختصر.

جُبل الإنسان على مكابدتها شاء أم أبى منذ بدء الخليقة، فكم من إنسان لوّعه الحب وأسقمه العشق، وطار به الهيام شوقا للحبيب.
وحفل التاريخ الإسلامي بأسماء لمعت في سمائه، كجميل بن معمر الذي لقب بإمام المحبين ورائد العاشقين، الذي يقول في وصف بثينة:
هي البدر حـسنا والنـساءُ كواكـبٌ
وشتان ما بين الكواكب والــبدر.

لقد فُضّلت حسنًا على الناس مثلما
على ألف شهرٍ فُضّلت ليلة القدر.

وأعتذر لمن لايرغب في قراءة أحوال العشاق والمحبين ولكن: ليعلم أنها جزء من حياة البشر ، وعلاقاتهم، في كل زمان ومكان، ولو أخفى مافي قلبه ونفسه فالله مبديه ولو بعد حين.
وقد ألّف فيه فقهاء الأمة وأدبائها كتبا عديدة.
فهذا الإمام ابن قيم الجوزية أحد فقهاء وعلماء الحنابلة، وتلميذ الإمام ابن تيمية صاحب التصانيف العديدة، ألف في الحب كتابًا سماه:
(روضة المحبين ونزهة المشتاقين).
وصف فيه الحب وأحواله وطبقاته حتى رقى به إلى أسمى الأخلاق الإنسانية، مع ذكر للجمال وسره متوخيا العفة والأدب بما يرقى بالفكر والأخلاق إلى مرحلة الكمال.
وقد ضمنه الكثير من الأشعار المتعلقة بالموضوع فجاء الكتاب راقيا في موضوعه وراقيا في أسلوبه، وقد تم تحقيقه زيادة في الفائدة.

وألف فيه أيضًا ابن حزم الظاهري صاحب كتاب المحلى بالآثار كتابًا سماه: ( طوق الحمامة).
ورغم سعة علم ابن حزم فهناك من يقعون في عرضه بالتعسف عندما يلحون على جذور ابن حزم الإسبانية والمسيحية، ( قاتل الله العنصرية البغيضة، فما فرق صف الأمة سواها.
فتجدهم يركزون على حكاية أوردها في “طوق الحمامة”حول غرامياته المبكرة في قرطبة أيام عزّه بها، حين هام بجارية اسمها “نعم” هياما رومانسيا، يستنتج منها أنه كانت لديه في مرحلة صباه الأولى نزعة حب عذري، وكأنه ليست لديه من المؤلفات إلا الطوق، وتعاموا عن التواليف الأخرى في المنطق والأخلاق والفقه والسير والدين والتاريخ والأنساب والسياسة والتراجم وغيرها، وكأن ابن حزم لم يكن إلا غزليا، وغاب عنهم ابن حزم المتكلم والفيلسوف والفقيه والباحث واللغوي والمؤرخ والشاعر والثائر وعالم النفس والأخلاق ورجل الفكر و السياسي، وفي كل الجوانب من التراث الذي تركه، نجد ابن حزم واضح الانتماء جلي الهوية إلى حضارته العربية الإسلامية، معتزا بها اعتزازا كبيرا.
ورغم انفتاح ابن حزم على الثقافة المحلية من قشتالية ولاتينية كانت موجودة في الأندلس الإسلامية، فإن هذا الانفتاح والتفاعل مع ثقافة الغير لا يلغي الأصالة، وابن حزم لم يكن ضامر الثقافة العربية، أو موزع الذات بين ثقافته الأصلية وبين الثقافة الأجنبية، وإنما كان في سياق عصره، وفي سياق حياته، مثقفا وكاتبا ومبدعا عربيا صرفا، أما الذين يطاردون ابن حزم في مطاوي نفسه، أو يفتشون في “أخفى طيات روحه” كما يقولون ليستنتجوا اسبانيته، أو ليفترضوا وجود مسيحية كامنة فيه، هم بهذا يخالفون أبسط قواعد المنهجية العلمية، فمن التعسف وضع ابن حزم بين قمم الفكر الاسباني على امتداد كل العصور، في حين أنه وبشهادة تراثه عربي ومسلم غيور على دينه وعروبته.
وماكتاب (المحلى) بالآثار إلا شاهدا على ذلك، لكنه بشر له وجدان وحس وعواطف تتأثر وتتفاعل مع أحداث نفسه ومجتمعه المحيط به.
أما الذين يتحدثون عن صفاته النفسية التي تشبه أو تماثل الصفات النفسية الاسبانية، ليبعدوه إبعادا تاما عن العرب، فإنهم يقعون في الخطأ وفي العنصرية في آن واحد، كأن العرب لم يعرفوا في تاريخهم مكارم الأخلاق، وهي التي لم تزدهر لدى أي شعب من شعوب العالم مثلما ازدهرت لدى العرب، ويكفيهم في ذلك قول نبيهم (صلى الله عليه وسلم) :” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” ، وإذا كان ابن حزم يشيد بالصداقة ويكره النفاق والكذب، ويناضل من أجل القيم العليا، فهل مثل هذه الصفات تبعده عن العرب وتلصقه بالأسبان.

فلنحذر التصنيف الطائفي والعنصرية البغيضة فيما بينن، فإنها منتنه، ولنرقى ونرتقي ونسمو بأخلاقنا كأولئك الفقهاء الأدباء العظماء رحمهم الله.
أ. د. عبدالله المالكي

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button