قوة التراث .. وإشكالات الحاضر .. ورهانات المستقبل
مدخل:
تنتمي المرأة السعودية المعاصرة بثقافتها إلى تاريخ مكتنز بالأصالة والحرية المسؤولة التي أهلها لأن تكون مضرب مثل لمختلف قيم المروءة والشهامة والإباء العربي الأصيل، وما المقولة الدارجة للملك المؤسس عبدالعزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود “وأنا أخو نورة” إلا شاهد على هذا الحال بكل وضوح ودقة.
لقد عاشت المرأة السعودية قرونا من الثقة المجتمعية التي فرضتها كل الأعراف والتقاليد العربية الأصيلة، فهي لم تكن في المخيال التراثي عارا يجب أن يُخفى، وليست عبئا يتوجب التخفف منه، بل كانت مثار افتخار وتودد وعزة ومنعة في كثير من نصوص الأدب الشعبي، ويمكن الرجوع في ذلك إلى كثير من كتب التراث الشعبي، وإلى ما دونه الدكتور سعد الصويان في موقعه الإلكتروني (http://www.saadsowayan.com/articles/articlesFL/B39.html) وضمنه من قصائد وأشعار لكبار الشعراء ورجالات القبائل العربية في أوائل القرن العشرين، الذين عكسوا جانبا من دور المرأة الحقيقي وحالة الاعتزاز بها والثقة بوجودها.
لقد كانت تلك الثقة وذلك الاعتزاز من أبرز ما يتميز بها العربي الأصيل من سمات وخصائص دونا عن غيره من الشعوب، ودون أن تؤثر فيها أي تصورات ذهنية خاطئة، ذلك أنه وحين لا تستقبل المرأة ـ بنتا كانت أو زوجة أو أختا ـ ضيوفا حَلوا لحظة غياب رجل البيت، ولا تقوم بإكرامهم وتقديم حق الرعاية الواجبة بحجة غياب الرجل وخُلو دارها من أي أحد، يكون ذلك بمثابة النقيصة والعار التي تلازم صاحبها حتى يموت، وبالتالي فالطبيعي أن تقوم بكل ذلك مُهللة مُرحبة دون أي حرج، بل ويكون لها الشرف والمكانة الأعلى في قلب الرجل، فيما يُعبَّر عنه بالقول الشعبي أن فلانة هي “أخت الرجال”.
ولم تقتصر تلك الثقة على مظاهر الكرم والحفاوة بالآخر، بل تعدت إلى غير ذلك مما يتعلق بشأن المرأة واختياراتها ضمن الأطر والحدود المتعارف عليها مجتمعيا في ذلك الوقت. وبالتالي فقد حظيت المرأة بكامل استقلالها انطلاقا من قيم مروءة عربية أصيلة كانت تحكم ذهنية الرجل سواء كان أبا أم أخا وحتى زوجا.
ذلك كان سمت سائد في إطار جزيرتنا العربية بوجه عام، وضمن حدود المملكة العربية السعودية بوجه خاص، وإن تعددت صوره وأشكاله بين إطاري المجتمع الحضري (الفلاحي أو المديني) من جانب، والمجتمع البدوي من جانب آخر، حيث لم يظهر أي تباين ذهني بينهما إزاء واقع المرأة وطبيعة كينونتها بشكل عام، حيث أن السمة الذهنية الاجتماعية المحركة لدوافعهم ونظرتهم إزاء المرأة واحدة، كما أن الرؤية الدينية قائمة على معطيات تُغلب حسن الظن والثقة المتبادلة بوجه عام.
مظاهر التحول المجتمعي:
على أن ذلك قد بدأ في التحول بشكل ملفت للنظر مع حلول الثلث الأخير من القرن العشرين، وظهور ما يعرف بثقافة “الصحوة الدينية” وتحكِّمها بمفاصل المجتمع.
(مع نهاية حقبة السبعينات من القرن 20م برز تيار ديني سلفي متشدد آمن ببعض المفاهيم الدينية بمنظور خاطئ، وأخذ يدعو له بقوة مقدما إياه على أنه الحق المبين، فكان له تأثيره السلبي على المجتمع بوجه عام، وعلى واقع المرأة بشكل أخص، وصار مصطلح “الصحوة” رمزا دالا على هوية التغيير الحادث في إطار المجتمع، دون النظر إلى صوابه من عدمه، وبالتالي فالإشارة إلى مفهوم “الصحوة” هنا نابع من استخدام مصطلح وليس تقرير حالة)
وكان للأسف أن ارتكزت عديد من مفاصل ما يسمى بـ”الصحوة” على جانب تعزيز الفصل المجتمعي بين المرأة والرجل، انطلاقا من مفاهيم دينية تم تقديمها وكأنها الحقيقة المطلقة، وأن ما سبقها كان خطأ فادحا مؤدي لجوانب من الفسق والانحلال، وكان مؤدى ذلك أن تم تضييق الخناق على المرأة وكبت كثير من مظاهر حريتها، وإلغاء أي نوازع مستقلة لشخصيتها، لتصبح تابعا مطلقا للرجل سواء كان أبا أو أخا أو زوجا وحتى ابنا.
لقد انطلقت مفاهيم “الصحوة” من منظور ديني خاطئ قوامه تعزيز عدم الثقة بالمرأة والرجل على سواء، مع تحميل المرأة كل اللائمة لأي خطيئة مجتمعية، وارتكزت على مفاهيم سوء الظن في منحى مخالف لقطعية الثابت القرآني المحذر من ذلك وفقا لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم}، ليصبح من حينه الظن المنهي عنه مستندا يتم البناء عليه في تقييد حرية المرأة المسؤولة، وأساسا ينبني عليه تنفيذ كثير من الأحكام المخالفة لقواعد الفقه الإسلامي المتفق عليها، بل وجرى تصدير عديد من الأحاديث النبوية ذات السمة المعيبة في حق المرأة كالقول: “بأن النساء ناقصات عقل ودين” بمنظار سلبي بحت، على الرغم من إمكان النظر إلى مفهوم ذلك برؤية إيجابية أخرى.
وفي المقابل تم التقليل وصولا إلى حد الإخفاء من قول النبي الصحيح: “إنما النساء شقائق الرجال” لتكريس ما رغبت “الصحوة” في تبنيه مسارا بنيويا لطبيعة المجتمع الجديد، القائم على الأنوية والأحادية الذكورية، وهو ما أثمر عن إشكالات كثيرة صار المجتمع يعاني منها اليوم بشكل مباشر، وأدت إلى بروز حالة من مظاهر الصراع الداخلي ضمن إطار مجتمعنا الكبير بوجه عام، لتعلوا العديد من الأصوات النسوية جهارا مطالبة بإسقاط الولاية بشكل كلي، في منحى يمكن أن يفهمه الآخر بأنه شكل من أشكال التمرد، وإن كان في حقيقته مظهرا من مظاهر التخلص من قيد ليس له أساس ديني صحيح، وجاء مخالفا لهوية المجتمع وطبيعة كينونته الأصيلة.
واقع المرأة السعودية المعاصرة:
على أن إشكالات مظاهر تلك “الصحوة” لم تقف عند حدود التضييق الخاص على هوية المرأة وكينونتها المستقلة وحسب، بل أدى إلى حدوث حالة من الضمور الأسري، وتلاشي ما يعرف بالأسرة الممتدة التي كانت مظهرا بازا في إطار مجتمعنا بوجه عام.
تلك الأسرة التي كان يجمعها بيت واحد، ونطاق عمل مشترك واحد، سواء كان في المجتمع المديني أو الفلاحي، وحتى في المجتمع البدوي، حيث كانت الأسرة الممتدة الفلاحية ـ على سبيل المثال ـ تقوم بأعمال الفلاحة ومن ثم الحصاد بشكل مشترك دون أدنى ريب أو مظنة سوء، وكذلك الحال مع غيرها من أنماط الأسر.
لكن ذلك كله قد تلاشى جراء تصدير “الصحوة” لمفهوم “الحمو الموت”، وصارت العلاقات القرابية بين الإخوة مثارا للريبة والتحذير، بدل أن تكون منطلقا للألفة والوئام، وهو ما نتج عنه ظهور حالات من التشوهات النفسية ضمن إطارات بنية العلاقات القرابية بوجه دقيق، وكانت المرأة ـ للأسف ـ (أما كانت أو أختا أو بنتا أو زوجة) هي الضلع الأضعف في المعادلة المجتمعية الجديدة، ليتضح ذلك في كثير من الصور الحياتية الحقوقية، التي حُرمت منها من منظور مجتمعي بخلفية دينية خاطئة، كحق ممارسة الرياضة، وحق قيادة السيارة، وحق الالتحاق ببعض التخصصات المعرفية في مسار التعليم العالي، وصولا إلى حق الاستقلال المسؤول بنطاق ممارساتها الشخصية سواء في الإطار العلمي أو الاقتصادي وحتى الحياتي.
المخرج :
إننا أمام هذه المعضلة الحاصلة نحتاج إلى إعادة عصا التوازن المجتمعي إلى سابق عهده، ولا يتأتى ذلك إلا بتوضيح إشكال وخطأ الكثير من المفاهيم الدينية “الصحوية” الخاطئة التي تم الترويج لها مجتمعيا وكأنها حقيقة مطلقة.
تلك الأفكار التي كان بسببها أن تعززت الروح الذكورية في مفاصل رؤيتنا المجتمعية لكثير من النصوص الفقهية، كما لم يقتصر ذلك على الأرض وأحكامها، بل استتبعت رؤيتهم لذلك إلى الآخرة وسبيلها، ولهذا نجد أن الرؤيا الجنسية والتمتع بكم هائل من الحور العين، هي التي غلبت على مناحي تفكيرهم وخطابهم الإيماني المُشوه.
كما يتوجب الاهتمام بتعزيز قيم المروءة والأخلاق بين جنبات المجتمع لكون ذلك هو الضامن والمحرك الرئيس لكثير من الصفات الحميدة بين مختلف الأفراد والجماعات، وهو ما يتوافق مع دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القائل: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
وفي هذا الإطار فلن يختلف أحد اليوم في أن تلك القيم الحميدة ومفاهيم المروءة والأخلاق الفاضلة، هي الحاكمة لمختلف شعوب الأرض المتقدمة، كما هو الحال في اليابان وغيرها، التي يولي شعبها ذلك شأنا كبيرا، وقدموا بسلوكهم نموذجا بات يحتذى بين شعوب الأرض.
على أن كل ذلك لن يكتمل بشكل نموذجي طالما وأننا كمجتمع مسلم لم نجدد رؤيتنا الدينية إزاء عديد من القضايا المتعلقة بالمرأة، التي يمكن ملاحظة التأثير التوراتي عليها، كقضية خلق المرأة المخلوقة في أذهاننا من ضلع أعوج، وفق ما ورد في الحديث المنسوب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمذكور نصا في الإصحاح الثاني من سفر التكوين بكتاب التوراة؛ وقضية نجاسة المرأة وقطعها لصلاة المؤمن، وقضية نقصها عقلا ودينا، إلى غير ذلك من القضايا التي ترسخت في ثنايا الذات المعرفية للمجتمع بتأثير خفي من سلطة الروايات الإسرائيلية، ودون أن يكون لها أي أساس من منطق عدلي إلهي قرره الله في محكم كتابه الثابت.