المقالات

تحطيم الوثن التقني !

 

الناظر إلى حالنا اليوم يجد الصورة حلّت بديلا للواقع في كل شيء ، فصارت مهيمنة على خطابنا و على علاقاتنا ، إذ لم تعد مكتفية بدور الوسيط ، و إنما صارت هي الأصل حيث انقلبت المعادلة فصار الواقع وسيطا لها ، و هذا معنى من معاني طغيانها و افتراسها لنا ، فهي اليوم تحضر بوصفها أصلا بين الصديق و صديقه ، بين المعلم و تلميذه ، بين المربّي و الناشئة ، و الأخطر من ذلك أنّها اقتحمت العلاقة التي بين العبد و ربَه ، فهي حاضرة في المساجد و التكايا و في أداء الشعائر و العبادات ، حاضرة حتى في تلك اللحظة التي يرفع فيها الحجاب في الصلاة ، إذ تسللت في هذه المسافة ، و هذه أخطر مظاهر حجبها و حيلولتها و طغيانها و افتراسها .
في هذه الحالة ، بحسب طه عبد الرحمن ، ليس أمامنا لمواجهة هذه التحديات المعاصرة سوى العودة إلى الذاكرة الأولى ممثلة في الميثاقين ، ميثاق الربوبية و ميثاق الأمانة ، و بصرف النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معه في حيثيات تتعلّق بالمشاهدة حسب الفكر الصوفي ، إلا أنّ الغاية من العودة إلى هذه الذاكرة الإنسانية في رحاب الملكوت الأعلى هو كسر أصنام التقنية في صورها و أيقوناتها و العودة إلى البراءة الأولى ، مع التأكيد هنا على أن الصنمية هنا لا تتعلّق بالتماثيل وحدها ، و إنما بكل صورة تكون حجابا عن الحقيقة من جهة ، و عن التواصل مع الله سبحانه من جهة ثانية ، و لا يكون ذلك إلا بالتجرّد من رداء التقنية الذي صار حائلا ، و في الوقت نفسه صار من خلال تكريس الصورة و حضورها في كل شؤون الحياة صارفا عن الشعور الروحي الحقيقي .
لك أن تجول بطرفك هنا و هناك في المسارح و المراكز الثقافية و دور العبادة و المرافق العامة و المنازل و الاستراحات الخاصة لتجد أن الصورة المجازية حلّت بديلا عن حقائق الأشياء ، فصارت مساحة حركة الإنسان داخل الزحام التقني ضيقة جدا لا تتسع حتى لتشمل وقت الصلاة و الذكر في أعقابها .
و في ظني أن أولى خطوات الخروج من هذا الطوفان التقني الذي غمر روح الإنسان في أعماقنا تتمثّل في الوعي الفردي بهذا الأمر و البدء بالتخلّص تدريجيّا ، على الأقلّ ، من طغيان الحضور عبر الصور الشخصية و المناسباتية خصوصا فيما يتعلّق بالشأن الديني جوهر الميثاق بين الإنسان و ربّه .
يطرح طه عبد الرحمن حلولا لهذا العصر التقني الذي وصف إنسانه بالميّت مجازيا لأنّه فقد روحه في متاهة التقنية الحديثة ، لكن حلوله تنتمي للفكر الصوفي الذي قد يحلّ الإشكال بإشكال آخر يتمثّل في حجب الشيخ المريدَ برغم أنه يطرحه مخلّصا و مربيا و هاديا ، إلا أن الحل الأمثل في رأيي يكمن في العودة إلى التلقّي الطبيعي و الخروج إلى الفضاء الكوني تأملا و تدبّرا و تفكّرا و خلع كل الصور التقنية المجازية التي تحجب الرؤية .
بمعنى آخر إن الخروج من متاهة التقنية ينبغي أن يكون حلا فرديا يشعر المرء بضرورته من خلال إدراك خطورة التراكم المجازي للصور عبر امتداد العمر ، إذ يعني هذا التراكم مع الزمن غياب الشعور الإنساني و الروحي معا ، و تحوّل العلاقات الإنسانية و العبادات الدينية إلى طقوس و شعائر لا تتجاوز الاحتفالات الطقوسية التي تقام في المعابد الوثنية !
سعود الصاعدي

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button