لا أنظر إلى الترفيه نظرة ريبة و توجّس ، و لا أعتبره بدءًا ضمن مشروع التغيير القسري الذي يراد به طمس الهوية ، بل على العكس من ذلك أرى الترفيه ،كحاجة إنسانيّة، ضرورةً اجتماعية و ثقافية ، و هو استجابة طبيعية لمنطق العصر التقني قبل أن يكون وسيلة لإعادة التوازن إلى الإنسان المعاصر الذي فقد كثيرا من هامشه الحياتي لحساب المؤسسات و البرامج الجادة ذات الصرامة العلمية و الأخلاقية .
إن إنسان القرن الحادي و العشرين في نموذجه المثالي المفقود هو “الإنسان العاطفي” كما يقرر ميشيل لكروا في كتابه “عبادة المشاعر” ( ترجمة د. أمين كنون ) ، و من هذا المنطلق أولى المشاعر اهتماما بالغا في دراسته الفلسفية و النفسية من أجل تقديم رؤية متكاملة عن هذا الإنسان و عما يحتاجه من توازن و تناغم شعوري مع الطبيعة في عصر الإنسان التقني .
و ما نشاهده من تفلّت أخلاقي و لامبالاة إنسانية و احتفاء بالتفاهة ، بل و وحشية في القتل و الإقصاء قد يكون في بعض منه عائدًا إلى غياب الوعي الترفيهي الصحيح ، و كذلك غياب الجانب الترفيهي الذي لا يصلح ، في رأيي ، أن تتبنّاه المؤسسات أو أن يوضع في إطار رقابي و إملائي صارم ، لأن طبيعة الفرح هي في الأساس طبيعة الشيء الفائض غير المرتّب ، و من هنا تبدو مأسسة الترفيه طريقة مخالفة للترفيه من الأساس ، و نتائجها قد تأتي بخلاف قصدها و غاياتها المرجوّة . يقول ميشيل لكروا ،ناعيًا طريقة تسليع المشاعر :” لقد أصبحت المشاعر أداة للتسويق بين أيدي المتحكمين في أنشطتنا الترفيهية ، الذين يستغلونها من أجل التأثير فينا بطريقة معينة ” ، و يؤكّد أنّ “المشاعر أصبحت طقسا” ، و هنا يبرز خطر الترفيه المؤسسي حين يفقد تلقائيته و يتحوّل إلى ترفيه معلّب يحدّد لك مسار ما ينبغي أن يبهجك و ما لا ينبغي ، و يملي عليك فواصل الضحك و مواطن التبسّط و القهقهة ، بل و يجبرك على وسائله دون مراعاة مزاجك النفسي الذي هو الشرط الأوّل في تحقيق الغاية من الترفيه ..
من هنا يرى ميشيل ، أنّ “العودة للمشاعر تشكّل في نفس الوقت ثروة و خطرا . ثروة لأنّها تمتصّ المبالغة في العقلانية ، و تمكّن من تخفيف الضغط الحاصل بسبب العلوم التقنية و التنظيمات التي تطبع الحضارة ” ، و هي في الوقت نفسه خطر لأنّها ، بحسب ما يرى ” تعطي للإحساس توجهًا أحاديّ الجانب” .
و هنا يسعني القول إن مأسسة الترفيه ،لا ثقافة الترفيه ، تجعل الإحساس أحاديّ الجانب ، فتقع فيما فرّت منه هروبا من التطرّف و الصرامة و الوحشية ، إلى ما يمكن تسميته بوحشيّة مضادّة .
و من جانب آخر فإن التأطير المؤسسي لما يفيض من الشعور ، أو لما ينبغي أن يكون في أساسه فائضا شعوريا قد يؤدي إلى تنميط المباهج و تحويلها إلى مواد استهلاكية بلا طعم و لا لون و لا رائحة ، و مكمن خطورة هذا الأمر يتمثّل في حرق آخر ورقة للشعور الإنساني الذي بقي للجانب الروحي ، و في اعتقادي أن هذا داء الثقافة الغربية التي طفق فلاسفتها و مفكّروها يطرحون من أجله رؤاهم للخروج من الضغوطات العلمية الصارمة في ظل هيمنة العصر التقني ، و لعل كتاب ميشيل لكروا تم طرحه في هذا السياق الثقافي و الفكري .
ما الحل إذن ؟ الحل بحسب تصوري ليس في ضخّ البرامج الترفيهية وفق إملاء مؤسسي ، و هذا بالطبع لا يعني رفض الترفيه و التقليل منه ، فهو كما أسلفتُ ضرورة أكثر مما هو ترف و ترويح عابر و إنما يعني صناعة الوعي الترفيهي ، إذا صحت العبارة ، للفت الفرد و المجتمع إلى نوافذ متعددة تهيّئه إلى أن يستثمر طاقته الشعورية بما يتناسب مع رغباته من جهة ، و ما يعود عليه بالإنتاج و التفاعل الاجتماعي الإيجابي من جهة ثانية دون أن يكون ذلك مبرمجا في مراكز تنشيطية أو مؤسسات ترفيهية تشعره بالواجب الذي هو في أساسه نقيض للفعل الترفيهي .
و هنا أفترض أن من ثقافة الترفيه أن يعي الفرد أولا فلسفة الشعور و يتّجه إلى ذاته من الداخل لتفجير طاقتها الكامنة عبر فتح أكثر من نافذة في جدار وعيه لانتشال إنسانه العميق المكبوت في زنزانة اللاوعي ، بحيث يوقظ في داخله “الإنسان العاطفي” عبر جهد فردي تأمّلي عميق ، و في هذا الصدد يفرّق ميشيل لكروا بين نوعين من المشاعر ، مشاعر الصدمة و هي مشاعر انفعالية وقتية أشبه بانفجار يتلاشى أثره بعد حدوثه فورا ، و غالبا ما يكون هذا الشعور سطحيا و مصاحبًا للأنشطة الترفيهية الصاخبة التي تحرص على إفراغ الشعور في لحظة واحدة كما لو كانت لحظة اشتعال سريعة يعقبها انطفاء أسرع أو صدمة عنيفة تحدث اهتزازا يبعثر الشعور كما لو كان مفرقعة ناريّة .
على العكس من ذلك يبدو النوع الثاني من المشاعر و هي مشاعر التأمّل ، إذ إنّه شعور بطىء لكنه عميق و له ديمومة ، حيث يساعد التأمّل ، بتعبير أندريه جيد ، على فنّ تذوّق الكائنات و الأشياء و المناظر الطبيعيّة ، ذلك أنّ في التأمّل تمهّلا و رفقا في التعاطي و التفاعل مع الأشياء ، و هذا هو الفرق الجوهري بين الصدمة و التأمّل كما يرى ميشيل حيث ” مشاعر الصدمة لا تتحمّل الصبر و لا يمكن إشباعها ، تتغذّى على التتابع الهائج للأحداث ، فتقتل الحاضر بارتمائها نحو المتع التي يخبّئها المستقبل ” ، أما مشاعر التأمّل ، فعلى العكس حيث ” تتفتّح مع مرور الوقت و انقضاء الحاضر ، فجوّ البطء هو الذي يسمح بصياغة المشاعر الهادئة التي تتسلل إلى الروح و تعمل على تنميتها “، و ينقل في هذا السياق عبارة عميقة لكارل فريد دور كهايم :” الأشياء تخاطبنا إذا منحناها وقتا للإنصات“.
و ما من شك في أن مشاعر الصدمة هي التي تهيمن على إنسان هذا العصر ، ذلك أن مشاعر الصدمة تأتي دائما مصاحبة لاستهلاك الصور الذي فرضته التقنية الحديثة ، كما تأتي مصاحبة للحفلات الصاخبة و الإيقاعات الحماسية السريعة ( الشيلات نموذجًا ) ،خلافا لمشاعر التأمّل التي تميل غالبًا إلى القراءة و الاستمتاع بالعالم من بوابة الشعور البطيء و من هنا ، بتعبير ميشيل ،”يأتي تفوّق القراءة على استهلاك الصور ” ، كما يضيف أنّ “المعلومة في الصورة ، خصوصا المتحركة ، يتم تقديمها كاملة في دفعة واحدة ، و لكونها حيّة و آنية ، فهي بالتالي تشجّع على مشاعر الصدمة ” ، أما من خلال عملية القراءة ” فتتشكل الصورة الذهنية بصفة تدريجية ، و يساعد بطء نضجها على ظهور مشاعر عميقة تتفاعل مع الحياة الباطنية ” .
هذا يؤكد أنّا في حاجة إلى ثقافة ترفيهيّة أكثر من حاجتنا إلى ممارسة الترفيه ، إذ قد نمارسه بطريقة خاطئة تقتل فينا الإحساس بجمال العالم و ربما ذهبت بنا إلى التطرّف المضادّ الذي يفترس عالمنا و يعيدنا إلى التوحّش و التصحّر العاطفي من جديد .
من هنا تبدو أهميّة الوعي الترفيهي ليس من جانب فردي فحسب ، و إنما أيضا من جانب جماعي مؤسسي ، ما دام أن مأسسة الترفيه أمرٌ لابد منه ، حيث يجدر بالمعنيّين بهذا الأمر أن يحرصوا في برامجهم الترفيهية على صناعة الوعي قبل أن يغرقوا المجتمع بالحفلات و الأنشطة ، و من آكد الوعي بالترفيه تخليصه من التأطير و من الرسمية التي تحيله إلى شعور استهلاكي أو إلى ردة فعل متطرّفة ، و أفضل ما يعين على ذلك تنمية الملكات الجمالية و دعم التلقائية في تلقّي الطبيعة و لفت أنظار الجيل إلى استثمار طاقاته الإبداعية في تحقيق مشاعر التأمّل التي تزداد عمقًا مع الزمن ، ضد مشاعر الصدمة التي لا تلبث أن تتحوّل في المساء إلى خمول و اكتئاب نفسي بعد أن تخفت الأصوات العالية و يعود الكون إلى سكونه العميق .
و في هذا السياق يقول نيتش :”إذا أردتم توجيه شاب إلى طريق الثقافة الحقيقي ، احذروا جيدا من كسر الرابط التلقائي الوثيق” ، و يمكننا القول كذلك الشخصي و الفوري ، الذي يجمعه بالطبيعة .يجب أن يخالط الكائنات من غابة و صخرة و عاصفة و نسر و زهرة وحيدة و مرج ،و يتحدّث معها كلّ واحدةٍ على حدة”، و لهذا يرى ميشيل لكروا في كتابه الذي أشرت إليه في بداية المقالة ضرورة التحوّل من عقلية الإرادة و التخطيط و القوة و البنائية التي ألهبت حماس البشرية في القرن العشرين إلى عقلية الانتباه ، و ذلك بالسماح بوجود الكائنات و الأشياء و إعطائها اهتمامنا و بجعل وجودنا بجانبها خفيفا ، و من أهم ما تتحقق به عقلية الانتباه ،في رأيه ، التمهّل في الإحساس و إعطائه وقتا و مسافة ليوغل في الذات ، و الجاهزية من أجل الانفتاح على العالم و الاهتزاز بطريقة تأملية مع التخلي عن المقاصد النفعية ، و أخيرا السماح بكينونة الكائن ، أي أن لا نحاول الامتلاك ، بل نترك الأشياء أمامنا كما هي نستمتع بها دون أن نسيطر عليها ، و هذه الأخيرة تعني أن نجعل الطبيعة مشهدا جماليا و مسرحا للتأمّل خارج رغبات التملك و الاستحواذ ، فإن ذلك من شأنه أن يمنح الكائنات البقاء و التفتّح و مواصلة إمدادنا بأسباب الحياة الجميلة ، و في هذا تحضرني قصة طريفة لمجنون ليلى الذي اصطاد ظبية فلما رأى عينيها ذكّرته بليلى فأطلقها فداءً لها ، و هو في حقيقة الأمر كان يتفاعل مع الكائنات بعقلية الانتباه التي تسمح بكينونة الكائن خارج المقاصد النفعية و رغبة التملّك .
خلاصة ما يمكن الخروج به من كل ما سبق أن نسعى إلى تحقيق ثقافة ترفيهية جمالية تعزز الرابط التلقائي الذي يجمعنا بالطبيعة ، مع التأكيد على مشاعر التأمّل عبر إيقاظ عقلية الانتباه التي لا تتحقق إلا بإحساس متمهّل و وعي عميق و جاهزية تستقبل العالم و تتفاعل معه دون رغبة في الاستحواذ و السيطرة .