المقالات

على ضفاف وادي قوب

مشاهد حياتية مثقلة بالحنين

تأتي علاقة الإنسان بالأمكنة معقدة وعصية على الفهم لكنها مثقلة بالدلالات ولعلنا هنا نستحضر مقولة ميشيل فوكوعن دلالات الأمكنة حين يقول : “لا يمكننا فهم الأمكنة باستقلال عن ممارسة الإنسان”، فالأمكنه تدل على أصحابها ونمط معيشتهم، كما تدل على أمزجة قاطنيها وعلاقاتهم وأهوائهم.
وهذا مايذهب إليه القاص والاديب جمعان الكرت في آصداره الأخير ( على ضفاف وادي قوب) فالقرية تصطف بيوتها إلى درجة أنّ كثيرًا منها لا يفصلها سوى جدار واحد، جدار يتقاسمه الجاران كما يتقاسمان وجبات الطعام ولُعبِ الأطفال. حتى يخيل لنا من خلال وصفه أن البيوت في القرية تحب بعضها البعض كما يفعل الناس
(على ضفاف وادي قوب) أستطيع وصفه بأنه (نوفيلا قصيرة) أطول مافيها هو العنوان أما الموضوعات فهي أقل من ١٨ موضوعا تحتل مساحة لاتتجاوز عدد صفحاتها ٨٠ صفحة من القطع الصغير
و هي – أي الموضوعات – التقاطات منتقاة من مشاهد متنوعة من الماضي تشعر معها وكأنّ ثمة كاميرا محمولة، تتحرك، وإلى جانبها لغة تصف ما يجري.
يستعيد جمعان الكرت من خلال المشاهد ذاكرة القرية ويحتفي بماضيها وانسانها وطقوسها وتفاصيل يومها ويرصد حكايات أهلها بلغة آسرة وسلسة لا تنقصها العذوبة .
ينوع فيه بين (المقال والقصة والحكاية والقصيدة الشعبية) ويصنع من ذلك المزيج. جسراً بين ماضي إنسان الباحة وحاضره في إيجاز لغوي ظاهر، لكنه مصحوبٌ بتتابع الأفعال والمشاهد على نحو يجعل من ذلك الإيجاز تراكماً صورياً
تحولت معه تلك المادة إلى مايشبه (الوثيقة التاريخية) و(الشاهد على العصر) رصدها الكرت بعيني طفل وذاكرة خبير وحنين عاشق ولغة أديب
تعالج موضوعات هذا الاصدار الجميل في طرف منها الغربة التي يعيشها إنسان القرية والحنين الذي تسبب فيه تحول قريته عن كثير مما كانت عليه
ويأخذك كقاريء إلى أزمنة وحيوات ذكريات خصبة ووقائع جميلة وأمنيات جذلى تحكى عن قرى وادي قوب لكنها تختصر حكاية الجنوب الانسان والمكان.
يمهد( الكرت) لمادته بمقدمة تقريرية عن التأثير المتبادل بين الانسان والمكان مؤكداً عبره أن إنسان الباحة تعامل مع البيئة تعامل العاشق مع معشوقته والفنان مع فنه وابتكر لذلك كل الوسائل الممكنة
وحكى عبر تلك النوفيلا أسرار المكان وأحلام وآمال وأحزان إنسانه سابقاً
ثم إغتراب ذلك الجيل حالياًمتغنياً بالقرية ولم يفته أن يتوغل بعيداً فيجعل مادة الاصدار اشبه بمتحف مكتوب يذكرنا بأسماء المزارع وأدوات الحرث والحصاد واسماء العصافير والنباتات وطريقة الصيد للعصافير
وطرق نزح الماء من البئر
معرجاً على لحظات ملهمة من حياة القرى حيث مطر الصباح حكاية سحر وجمال وبهجة تُحيل أرواح الناس والحيوانات والأمكنة بهجة لاتنقطع .
ولأن الحياة ليست مسرة على الدوام. فأنه يضمن المشاهد المقروءة بعضاً من لحظات الفقد المؤلمة فيختار جرف السيول للراعي الصغير وكيف تحولت القرية دون استثناء فرقة بحث تطوعية عن فقيدها بوسائل تقليدية
كما يصور في مشاهد قصيرة مواثيق القرية وقوانينها وطريقة تعاطي الناس مع تلكًالقوانين المجتمعية وقدرتهم على حماية الأعراف وإتاحة الفرصة لهيمنتها بوعي كاف يجعل من تلك الاعراف والمواثيق نظام اجتماعي فاعل يحفظ للقرية وأهلها سلمهم الاجتماعي ويحقق لها الأمان
كما يؤرخ لأعلام وادي قوب من أمثال الزرقوي وخرصان وعبيد والثوعي وغيرهم
ويوثق طقوس الفرح والفلكلور الشعبي واصفاً الزواجات والعرضة من اللحظة الأولى مستحضراً تفاصيل يوم الزواج وطقوسه والذبح ومظاهر الفرح واطلاق الاعيرة النارية والالبسة وبداية عقد المعراض والالحان الجماعية التي تبدأ بها الحفلة مروراً بوصف دقيق لاستعراضات الراقصين وحركات الجسد وانواع العرضة المختلفة والمساجلة الشعرية والموضوعات التي تعالجها القصيدة وصولاً إلى لبس النساء وماترتديه العروس من أزياء وحلي
وينجح في أن يقدم للقاريء كل هذا الحشد من المشاهد بلغة مقتصدة ودون فائض من العبارة أو المعاني ويتنقل بينها برشاقة قلم وخفة أسلوب وانسيابية حكاية تجعله ممسكاً بحبل السرد
ويرتحل الكرت بالقاريء نحو سوق رغدان مفتتحاً الحديث عنه ببيت شعري شهير يحمل الكثير من معاني الاعجاب بالسوق
(سلام ياسوق رغدان .. فيك الشباب الطموح) معرجاً على جمالية المكان وفتنته وتاريخيته كما يوثق لطرف من حروب شهدتها رغدان دون إيغال في تفاصيل مملة ومكتفياً بالإشارة لأشهر قائد قُتل ودفن في رغدان وهو أحد الباشوات من الجيش العثماني
مع استعراض سريع لكنه معبّر لطرق البناء ومهارات الباني للمنازل والمصاطب
ويورد في أحد الموضوعات ماقيل من شعر يتغنى بأخت لبنان ( الباحة) لبعض ابناءها ممن كتبوا شعراً فصيحاً يتغزل بحسن المكان
ثم يرتد نحو عيد القرية قديماً متحدثاً عنه بلغة فاتنة تجعل من عباراته محلقة و من اللحظة أناشيد طهر وعناقيد عنّاب
-ذاكرة الكرت هنا جاءت مثقلة بالحنين والمحبة للازمنة التي كانتها قريته ويظهر ارتباطاً روحياً ووجدانياً بذلك الزمن الافل
ويجيء مثقلاً بأسئلة العاشق المملوء بالحيرة والحسرة والامنيات والشوق العارم لتلك الايام الخوالي و( للزمانات) وأيام ( الولدنة) منادياً قريته:
( أيا قريتي هل تعيدين وجهك الطلق وهل تمدين يديك الحانيتين ؟؟)
هل تغسلين الأصداء العالقة في أجسادنا ، وتنثرين أشعة شمسك …للحمام…. للعصافير ….للجداول …. للغيوم
ص ٦٧
ليختم تلك المقطوعة الباذخة النابضة بالحب برفض حال قريته اليوم :
(سلام عليك ياقريتي كما كنت ، لا كما أضحيت ) ص٦٩
ولأن رمضان ولياليه وأيامه نكهة أيام العمر وأجمل لحظاته فقد أستحضرته (نوفيلا الكرت) بجمالية وتفرد ناقلاً القاريء بعبارة راشدة وناجزة وكثيفة ووازنة واصفاً يوم رمضان بلياليه ونهاراته وعباداته واكلاته والعابه وسمراته وألعاب الاطفال في ذلك الزمن
ولاينسى تضمينها طرفاً من اناشيدهم ومايقدم في الشهر من وجبات بسيطة ناقلاً الروح الحميمية التي تسود القرية
ومن الاناشيد التي يوردها والتي كان يرددها الاطفال ليحصلو على التمر أو الحلوى أو ماتعده النساء من أكلات :
( فليت فليت ياعمه .. الله يكبر بنتك .. وتسرح تأخذ حزمة وتوطيها في السدة .. ومن السدة للحدة ) ص٧٢
كما لايفوته أن يلج إلى أرواح كبار السنين ممن فقدوا الكثير مما ألفوه من المظاهر ومما تربوا عليه من العادات ومايعتمل في دواخلهم من ألم تركه تحول الناس عن طقوسهم اليومية كالزراعة والرعي ويجسد ذلك عبر وصف معبر على لسان مسن يطل ذات صباح بارد من شرفة منزله الحجري
ويجول ببصره في أرجاء المكان الذي علّته مراويح السحاب عما قريب
ليذهب نحوًمايجوس في صدره من حزن ويستنطق مشاعره تجاه اللحظة مندداً بواقع القرية الذي آلت إليه والدي لايسر ذلك المسن مطلقاً
موجهاً من خلاله اللوم للانسان الذي عق أرضه .
إجمالاً يمكن التأكيد على أن ( على ضفاف وادي قوب) عمل أدبي مثقل بذاكرة واعية
وحنين جارف هرب من خلاله جمعان الكرت إلى الأزمنة التي يعشق وأحسب أنه كُتب بلغة شفيفة قادرة على توريط القاريء في لذته كونه يولي عناية خاصة واهتماماً لافتاً بالمشاهد المقروءة التي حولت الاصدار إلى عمل مفعم بالمشاهد الحياتية اليومية، لكنّ حياة الكرت فيها ليست سوى ظلٍّ خافتٍ. رغم إنها مرتكز هذا العمل الأنيق

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button