قالت ”عائشة الحرة“ أم أبي عبدالله، آخر ملوك الطوائف في الأندلس، عندما وجدته يودع بالدموع مدينته قرطبة بعد أن سلمها للإفرنج على سفح جبل الريحان: أبكي كالنساء على ملك لم تحافظ عليه كالرجال!
ذكرت صاحبي بهذه القصة، وأنا أفسر له لماذا يجب على كل فرد فينا أن ”يقاتل“ بنفسه ونفيسه عن وطن يتعرض اليوم لمثل ماتعرضت له الممالك العربية في الأندلس من تآمر بين عرب وعجم؛ لانتزاع أرضنا من بين أضلع صدورنا.
قلت: يخدعك من يدعوك إلى مائدة اللئام، ويقدمك على منصة الحريات، ويصفق لك على مسرح العرائس. فلا أنت بطل، ولا حر، ولا نصف رجل عنده، وإنما مطية توصله إلى قلب وطنك، ووسط أهلك، وصدر دارك ليسرق منك عزك ويدمر عزوتك.
جرب أن تساومه على وطنه أو عقيدته، أن تستحثه على النقد والتمحيص، أن يجاريك في حقهما كما تجاريه. قد يخادعك مرة أو مرتين، لكنه سينتفض في الثالثة ليوقفك عند حدك، ويعلن أن وطنه خط أحمر، وأن عقيدته مقدسة لا تمس، وأن جماعته دومًا على حق، وأن شيخه معصوم.
قلت لصاحبي: أنت وأنا ومن مثلنا محسودون إلى حد الغيظ والغل والحقد. كل ذنبنا عندهم أننا نجونا مما وقعوا فيه. أكرمنا الله وأسخطهم، استقرت مركبنا وغرقت مراكبهم، تقدمت مسيرتنا وتعثرت مسيرتهم، أمنا في أوطاننا وعبثت الفرقة والفتنة بأوطانهم. وبدلًا من أن يغيروا ما با أنفسهم حتى يغير الله ما بهم، اختاروا أن يستعيدوا مجدهم بسرقة أمجادنا، ويبنوا بيوتهم على أنقاض بيوتنا، ويرفعوا رايات نصرهم على قلاعنا.
نحن، ياعزيزي، في ساعة اليقظة، لا يحق لنا أن نغفو أو ننام. أشرار الأرض، من عرب وعجم، يكيدون لنا بالليل والنهار، ويعملون بلا هوادة على تقويض خيامنا وسرقة حلالنا وذبح فرساننا واستباحة أعراضنا، كل هذا باسم الدين والقومية، التقدمية والديمقراطية. يحيطون بنا من كل جانب، ويتحالفون مع شياطين الأرض وجهلائنا ليتسللوا إلينا، ويفرقون صفنا، ويوقظون الفتنة بيننا. يقصفوننا بالصواريخ جوًّا، وبالمتسللين أرضًا. بالحرب تارة وبالإرهاب تارات. ثم يمدون يدًا تطلب الصلح، ويرتدون قناعًا يدعي الصداقة، ويطلبون الحوار.
(لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، كما أوصانا سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، و(لست بالخب ولا الخب يخدعني)، كما قال سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. ومن مد لك بالود يدًا، وبالغدر أخرى، بالإسلام وجهًا، وبالمجوسية صدرًا، لا تأمن له إلا كما يأمن الغافي إلى الضباع والعقارب والأفاعي.
عصفت مؤامراتهم بنا، فجاء الغرب بانقلابات عصفت بالأمة العربية في مشارقها ومغاربها. دعموا الانقلابيين في العراق وسوريا ومصر وشمال أفريقيا، فقامت جمهوريات عسكرية حكمت شعوبها بالحديد والنار، وأعاقت تقدمها بنهب خيراتها وتعطيل مواهبها وتحطيم قدراتها. وعندما بدا أنها استقرت وصلح حال بعضها، ومضى بعضها الآخر على طريق الإصلاح، نفخوا مرة أخرى باسم الديمقراطية والحرية أعاصير ”الربيع العربي“ ومؤامرة ”الفوضى الخلاقة“ فهدموا الهياكل القائمة بدون أن يكون لديهم خطة لبناء جديد. وسلموها لجماعات الإسلام السياسي ورعاته على وعد وعهد أن يطبقوا معايير الديمقراطية الغربية، وألا يخرجوا عن النظام العالمي الجديد.
وكما خاب ظنهم في عهود الخميني بعد وصوله إلى الحكم على ظهر طائرة فرنسية، وبدعم الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، خاب حظهم في وعود هذه الجماعات ورعاتها في طهران وأنقرة والدوحة. إذ لم يحفظوا بلدًا حكموه، ولم يحكموا بلادًا تآمروا عليها، فدمروا ما وقع تحت أيديهم، وسقطوا في شباك أمن من سعوا لتدميرها.
ضاعت الفرصة الذهبية بفشل الداخل وتغير الخارج. فشلت تجارب حكمهم في جمهوريات الربيع العربي، وخاب سعيهم في الممالك العربية، وتبدلت القيادة الأمريكية من ديمقراطية مخاتلة معهم إلى جمهورية مقاتلة ضدهم. ومع ذلك، لا زالوا يواصلون المحاولة!
قلت لصاحبي: نحن اليوم في آخر مراحل المؤامرة. بانت الخطط، وتكشفت الوجوه، وتباين الناس بين مخلص وخائن، ولم يعد الحياد مقبولًا. فالوطن الذي يواجه العدو في الخارج بالعسكر والسلاح، يواجهه في الداخل بالوعي والوطنية. والأمن الذي نعيشه له أثمان، لا يدفعها الجندي وحده. فرجل الأمن الأول هو المواطن الذي بات يدرك أنه مستهدف، ووطنه ومستقبله من المستهدفين. وأن علينا جميعًا أن نقف في كل لحظة، بعقولنا وقلوبنا وأرواحنا صفًا واحدًا في وجه المستهدفين. فصاروخ الحوثي الذي يستهدف مكة المكرمة والرياض وخميس مشيط لم تسقطه صواريخ باتريوت وحدها، بل كان معها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومن خلفهم أسر أنجبتهم، وأمة تقف كلها صفًا واحدًا معهم.
لن تسقط، بإذن الله، ممالك الجزيرة العربية، مادام عليها ولاة أمر كسلمان بن عبدالعزيز، وآل زايد، وخليفة، والصباح. ولن نسمح بيوم نبكي على ملك أضعناه، لأننا فشلنا في الحفاظ عليه. ولن نقف محايدين أمام هجمة فكرية على عقول أبنائنا. ولن نسمح لعدو خبيث بشق صفنا وتفريق جمعنا، بإثارة الفتن الطائفية والعنصرية وبث خطاب الكراهية والتنافسية. وفي يومنا الوطني .. سنعلن بصوت واحد: عشنا ماعاش الوطن .. ومتنا دونه!