..
المدعى : موضع فاضل مشهور ، له تاريخ عظيم بمكة المكرمة ، ويقع بواجهة الكعبة المشرفة شرق المسجد الحرام الى جوار جبل مروة . والمدعى عبارة عن ثنية جبلية مرتفعة عن سطح أرض المسجد الحرام ، وليس حول المسجد الحرام ثنية غيرها . وقد ورد أن سيدنا ابراهيم عليه السلام لما أسكن سيدتنا هاجر وابنها سيدنا اسماعيل عليهما السلام عند الكعبة المشرفة ، تحت شجرة بالقرب من موضع بئر زمزم في واجهة الكعبة المشرفة ، وأمرها أن تتخذ بموضع حجر اسماعيل عليه السلام عريشا تسكن فيه ، سار قافلا أي راجعا ، فتبعته سيدتنا هاجر عليها السلام مذهولة من تركه لهما وحيدين في هذا الوادى الذى يفتقد كل مؤنس ، وقالت له : يا ابراهيم ، لمن تتركنا في هذا الوادى الذى ليس فيه أنيس ولا جليس ؟ فلم يجبها بشئ ، لأنه لم يكن يلتفت اليها حين كانت تدعوه ، وكان يمتنع عن الاجابة ويواصل طريقه ، فقالت له لما يئست من جوابه : آلله أمرك بهذا ؟ فقال سيدنا ابراهيم عليه السلام : نعم ، ولكن من غير أن يستدير اليها ، فقالت عليها السلام : إذن ، لا يضيعنا الله . فعادت السيدة هاجر عليها السلام أدراجها الى موضعها الأول حيث ابنها الرضيع سيدنا اسماعيل عليه السلام المتواجد عند الشجرة التى عند منبع زمزم . فلما فارق سيدنا إبراهيم عليه السلام الوادى صعد الى ثنية كانت هناك حيث يراهم ولا يرونه ، رفع عليه الصلاة والسلام يديه بالدعاء الى ربه تبارك وتعالى ودعا بالدعاء المشهور الآتي .
..
روى ذلك الامام عبد الله ابن العباس رضى الله عنهما كما رواها عنه الامام البخارى في صحيحه ، فقال : ثم جاء إبراهيم بها ( بسيدتنا هاجر عليها السلام ) وبابنها إسماعيل وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة ( الدوحة هي الشجرة ) فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل ، فقالت يا إبراهيم : أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ ، فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله الذي أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذا لا يضيعنا ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ، ورفع يديه ، فقال (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) .
..
وهذه الرواية تؤكد ما ذهبت اليه بأن ( المدعى ) هى الثنية الواردة في هذه الرواية ، بدليل : أنه ليس حول المسجد الحرام ثنية غير ثنية المدعى . ثم إن جميع الأحداث التى وقعت في زمان سيدنا إبراهيم انما وقعت بواجهة الكعبة المشرفة شرق المسجد الحرام حيث بئر زمزم ، ومقام ابراهيم ، والمسعى ، والصفا والمروة التى سعت بينهما سيدتنا هاجر عليها السلام ، فكلها واقعة بواجهة الكعبة المشرفة وليس لجوانب الكعبة المشرفة الأخرى نصيب لأى حدث منها ، وبالطبع فإن الثنية التي رقا اليها سيدنا ابراهيم للدعاء تكون في وجه البيت . وثنية المدعى بالطبع واقعة شرق المسجد الحرام بوجه البيت الحرام ، وسيدنا ابراهيم عندما أسكن اهله عند البيت الحرام قفى راجعا حتى علا الثنية وتوارى عن نظر سيدتنا هاجر عليها السلام بحيث يراهم ولا يرونه فتكون ثنية المدعى هي الثنية المذكورة في هذه الرواية ، لأنها الأقرب الى الكعبة المشرفة مسافة ، وهذا باعتقادي سبب تسمية هذه الثنية بالمدعى لقيام خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم عليها بالدعاء لأهله . وأما ما يقال : إن ثنية المدعى وجدت من ردم أقامه سيدنا عمر رضى الله عنه هناك حينما دهم مكة المشرفة سيل ام نهشل ، وجرف معه مقام سيدنا ابراهيم كما جرف معه أم نهشل رضي الله عنها ، فجعل فيها سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه هذا الردم ليصرف به السيل عن المسجد الحرام كما أوردها العلامة عبد الله غازي في كتابه افادة الأنام وتبعه في ذلك آخرون . وعليه لقد بحثت عن مصادر هذا الخبر كثيرا في بطون كتب الأقدمين مثل أخباري مكة للامامين الفاكهي والأزرقي وغيرهما ، فلم أجد فيها ما يستأنس به للوصول الى رأي محقق يدل على أن الردم المذكور كان بالمدعى ، ولكن الامام الأزرقي قال في أخباره : ما يدل على أن الردم كان بأعلى مكة عند بئر جبير بن مطعم التي كانت عند مسجد الراية وليس بقرب المسجد الحرام التي هي ثنية المدعى ، حيث قال : وحفر قصي أيضًا بئرًا عند الردم الأعلى عند دار أبان بن عثمان التي كانت لآل جحش بن رئاب ثم دثرت , فنثلها جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وأحياها انتهى . وقال في موضع آخر في أخباره : ومسجد بأعلى مكة عند الردم ، عند بئر جبير بن مطعم انتهى .
..
وهذا يدل دلالة واضحة على أن المدعى ليس من ذلك الردم ، وأن الردم الذى جعله سيدنا عمر بن الخطاب كان بأعلى مكة عند بئر جبير بن مطعم التي عند مسجد الراية وهى المنطقة التي كانت تعرف بأعلى مكة يومئذ ، وعرفت فيما بعد بالجودرية .
ثم إن المدعى ثنية جبلية لم تنشأ بفعل الردم كما يظهر لى ، والا لكان ما بعدها سهلا منحدرا ، والحقيقة لا يوجد بعد ثنية المدعى منخفض أرضى أبدا كما هو معروف . وبهذا أقول : فلا معنى للقول بانها أصبحت ثنية مرتفعة نتيجة الردم . وتحقق لنا أن الردم الذى اقامه سيدنا عمر لمنع السيول إنما كان عند مسجد الراية بالجودرية وليس بثنية المدعى . وأما ما يقال : أنها اشتهرت بالمدعى بسبب وقوف الحجاج الذين كانوا يأتون المسجد الحرام من جهة المدعى من ثنية الحجون للدعاء ، فكانوا يعاينون الكعبة المشرفة من هناك ويدعون الله تعالى ، لأن الدعاء هناك مستجاب كما قاله العلامة عبد الله الغازي رحمه الله تعالى في تاريخه افادة الانام . وأنا أقول : أن هذا الكلام دليل لنا على ما نقول ، بمعنى أن الحجاج القادمون من جهة الحجون كانوا إذا وصلوا المدعى يدعون هنالك حينما يشاهدون الكعبة المشرفة لعلمهم بأنه الموضع الذى شاهد فيه سيدنا ابراهيم عليه السلام الكعبة المشرفة ووقف عليها ودعا لأهله فيها ، فيدعون الله تعالى هنالك تأسيا بسيدنا ابراهيم عليه السلام ، وطبعا هذا كان متعين قديما وليس لحجاج العام الماضي . وأما القول : بأنه اشتهر هكذا لدعاء الحجيج هنالك ، فهذا كلام واه جدا لأنه ليس من المعقول : أن يشتهر موضع واحد مثل ثنية المدعى بمكة شرفها الله بالمدعى بفعل قلة من الحجاج ، وأطراف أخرى من مكة شرفها الله لم تشتهر بذلك ، مع أن الحجاج يأتون من جهاتها الاربع كلها أفواجا ، ويدعون الله تعالى في مواقعهم بمجرد رؤيتهم جدار المسجد الحرام ومنائره ولم تشتهر بذلك . وعليه أقول :
- إن ثنية المدعى لم تشتهر بالمدعى حصريا الا لإرث كان يعلمه أهل مكة شرفها الله منذ القدم أنه الموضع الذى دعا فيه سيدنا ابراهيم عليه السلام لاهله هنالك .
- إن المدعى هي الثنية التي رقا عليها سيدنا ابراهيم عليه السلام حين توارى عن السيدة هاجر عليها السلام ودعا الله تعالى لهم فيها .
- المدعى هى الثنية الوارد ذكرها في رواية الامام البخارى عن الامام ابن عباس رضى الله عنهما .
- ثنية المدعى ، ثنية جبلية قديمة . وليست هي فعل الردم الذى أقامه سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه .
- الردم الذى أقامه سيدنا عمر تحقق مكانه عند مسجد الراية بالجودرية بأعلى مكة كما ذكرها الامام أبو الوليد الأزرقى في تاريخه وليس بثنية المدعى .
ورأيت في بعض كتب السيرة خبرا شاذا : مفاده أن سيدنا ابراهيم عليه السلام حين دعا الله تعالى دعا على جبل كدى وهذا بعيد جدا ، وهو كلام لا يسنده الواقع . فمن المعلوم أن كدى جبل وليس ثنية ، ومن ناحية أخرى فان كدى واقع بأسفل مكة جنوبا بعيدا عن المسجد الحرام بما لا يقل عن الميل فأكثر ، فمن غير الملائم أن يتوجه سيدنا ابراهيم عليه السلام الى جهة البيت وأهله بعد أن قطع هذه المسافة البعيدة كلها ثم يكون بمكان يراهم ولا يرونه ، وبطبيعة الحال فإن إمكانية رؤية من بكدى لمن هم ببطن مكة غير واردة حسيا ، ثم انه لا يتفق مع مضمون رواية الامام ابن عباس رضى الله عنه السالفة الذكر ، و بالتالي فان كدي ليس في موقع الأحداث الابراهيمية وهو واجهة البيت الحرام . وهذا ما أردت طرحه وتوضيحه حسب اجتهادي وما قد توصلت اليه من بحث وتحقيق في هذا الأمر ، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسى . وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه وانيب ،، والله تعالى أعلم بالصواب .
د. ضياء محمد عطار
عضو رابطة الادب الاسلامي العالمية