..
من شرفة شقته الصغيرة المطلة على نهر سافغامون بولاية ميزوري يشاهد فالح مياه النهر تتدفق في طريقها إلى مزارع بيوريا وإلينوي. تبدت فوق سطح ماء النهر ملامح شاحبة لوجه إبراهام، الرئيس الأمريكي الذي اغتيل. الضباب يحيل الصورة إلى لوحة رمادية باهتة. كل المثيرات المكانية من أشجار خضراء تمتد على مرمى النظر وزرقة لمياه النهر وتشكيلات ضبابية مباغتة ومبانٍ بواجهات زجاجية منتظمة على حافة النهر.. كل تلك لم تلفت انتباهه؛ إذ يشد سمعه صوت حان، ينبعث من حنجرة ذهبية؛ ليتماهى صدى الصوت في أرجاء الغرفة، ويمتد إلى الشرفة؛ ليتحول الصوت إلى فراشات ملونة، ترفرف بأجنحتها في الغرفة وحول النافذة. الصوت الطروب يتدفق بحنو بالغ فيما تختلج قلب فالح أحاسيس يرف لها قلبه، وينتعش بدنه. وطني الحبيب ولا أحب سواه.
انغمس فالح في ثنايا الصوت الطلالي لتنداح في ذاكرته صور وأصوات متنوعة.. صور لجبال شامخة وسهول واسعة ورمال ذهبية.. وثمة أصوات مخضلة بالخشوع والإيمان تشنف سمعه.. تلك الأصوات تعلو من فوق مآذن مرتفعة «الله أكبر.. حي على الصلاة».. وأرواح طاهرة تلبس البياض في مسيرة إيمانية حول الكعبة المشرفة.. تلك الصور المضيئة والأصوات الطاهرة تملأ المكان. ابتسم فالح، وراح يغني بشدو مبهج «وطني الحبيب ولا أحب سواه»؛ لتتشكل معه صور أخرى ماتعة.
أخذ فالح نَفَسًا عميقًا، وهمس لذاته: «ما أروعك يا وطني». قالها بكثير من الشوق والحب منتظرًا قطف ثمار طموحه بحصوله على المؤهل الذي يسهل له خدمة وطنه. أربع سنوات كفيلة بأن تزيد من متعة اللقاء. أخذت الطيور البيضاء تحلق في السماء الممتد أمام ناظريه، تارة تنقض على أسماك صغيرة، وأخرى ترفرف بأجنحتها في تشكيلات وكأنها ترسم لوحات جمالية في سماء النهر. ورغم جماليات الرؤية البصرية للمكان إلا أن فالح كان يحلق في فضاء آخر. لم تشده المساحات الخضراء وزرقة مياه النهر والبيوت الفارهة المنتظمة على حواف النهر؛ فهو يعيش لحظة انغماس حقيقية مع شيء آخر.. جغرافيا بعيدة إلا أنها تسكن داخل حجرات قلبه، ذلك الجدول الصغير الجاري بمياهه الشحيحة على سفوح السراة؛ ليشق طريقه بين شعابه، ويغذ في مسالك متعرجة، وتلك الغابات الصغيرة التي تفترش سفوح الجبال، وتلك السواحل المرصعة بالشعاب المرجانية، وتلك الرمال الصفراء المقتطفة من أكسير الذهب، وتلك.. وتلك.. لهي أروع وأجمل. هكذا ما كان يحس به فالح. بقي شهران وينجز مشروعه التعليمي، وساعات الشوق تزداد يومًا بعد يوم..
..
ها هو الوطن يسكن الأحداق ليتجلى في كل شيء، في الماء، في الجدران، في صفحات الكتب، في الملامح السمراء، في حقول الحنطة، وعرائش العنب.. عاد إلى الصالون ليقتعد أريكة صغيرة؛ لينعطف بصره نحو شاشة ملونة، اكتست باللون الأخضر، يطالع بشوق تلك البرامج التي تشع من أناشيد، أغانٍ، منجزات، وجوه هاشة باشة، آمال واسعة، ومستقبل مضيء، ومشاعر تتدفق من شغاف القلوب..
تلك المشاهدات دفعت فالح إلى أن يسطر عبارات معطرة بأريج الوطن.. أودع رسالته الخضراء من النافذة؛ لتتماهى الحروف والكلمات كعصافير خضراء، وتحلق في السماء بعيدًا.. بعيدًا في طريقها إلى مكان غال، ينتظر وبشوق الوصول إليه..
غنى بأحأسيس مرهفة ومشاعر فياضة «وطني الحبيب ولا أحب سواه».