..
لا شيء أكرم من الزراعة، فكلما اجتهدت في رعايتها جنيت أضعاف ما بذلته لأجلها، لكنّ المزارعين الذين يرثون مزارعهم عن آبائهم على نوعين:
نوع سيبقيها على حالها مكتفيًا بما تنتجه كمّا ونوعا، ومقتنعا بالطرق التقليدية للعناية بها، ومستسلما للرتابة حتى لو علم أنّها تواري في تربتها كنزا ثمينًا، ولكنّه سوف يفزع لو تدهور محصولها أو ضربته آفةٌ، وسيُهرَع إلى ذوي الاختصاص للخروج من مأزقه، وغالبا يتبع الحلول المؤقتة، فهذا الفلاح يعالج العِلَلَ بالمُسكّنات، فإذا تفاقمت حالة الأرض، واستشرت الآفات فسيخسر كثيرًا من الإنتاج، ولن يتمكن من تحسين حالتها إلّا بعد جهود مضاعفة، وقد يعجز عنها، فيتركها من سيّئ إلى أسوأ.
والنوع الآخر يتسم بالحصافة وبُعْدِ النظر، فتراه يُفكّر في استثمارها بمشروع تنمويّ يكون ضمانةً له ولأبنائه من غَدْرِ الزمان وتَبدُّلِ الأحوال، فيضع خطته منذ اللحظات الأولى لتَولِّيه أمرها، وأول خطواته اقتلاع الفاسد والضعيف والطفيليّ، ولا يدّخر جهدا في توفير أفضل الوسائل لزيادة إنتاجها وتحسينه وفقًا لرؤية واضحة وأهداف استراتيجية تُمكِّنُهُ من المنافسة في السوق بثقة واقتدار.
هذان أنموذجان لمن بين يديه هبة أو تركة، ويريد أن يستثمرها، فإمّا خمولٌ وكسلٌ يُؤدّيانِ إلى ضياع، وإمّا نجاحٌ وتألُّقٌ يضمنان عيشا كريما.
إنّنا نعيش اليوم في مجتمع (2030) الذي يُعدُّ المصدرَ الحقيقيّ لثروة لن تنضب إذا تمكّن كُلُّ مواطن من أداء دوره بمسؤولية. ولن يتحقق ذلك إلّا إذا توافرت بين يديه الأدوات التي تُؤهّله للقيام بهذا الدور على أتم وجه، ولا فرق بينَ مَنْ يتقدم الصفوف من قيادات وصُنّاع قرار وبين من يلحق بهم من مؤسسات، وأفراد، وفرق تَطوُّعيّة، فكُلٌّ منهم ترسٌ مهمٌّ في عجلة التنمية. وعلى الرغم من ثقتنا بفريق الرؤية، وكفاءة أعضائه، ورشاد قيادته، فإنّه من واقع الشعور بالمسؤولية كمواطنة انتظرت طويلًا بزوغ هذه الرؤية التي جسّدت كثيرًا من طموحاتنا ينتابني القلق أحيانًا من أن يصيبها ما أصابَ مشاريعنا الوطنية العملاقة في عقود مضت، فتَسبّبَ في موتها قبل ولادتها، والتي كان من أبرز عوامل إخفاقها التغاضي عن الفساد المالي والإداريّ الذي استشرى في منظومة المال والأعمال الوطنية، وتهميش دور المواطن العادي على الرغم من كفاءته وصدق ولائه لوطنه ولقيادته، إضافةً إلى ما لحق بالتكوين المجتمعيّ من تَخلْخُلٍ واضطراب على خلفيّة الاختلاف الفكريّ والمذهبيّ، وإذكاء التَّعصُّب، وتمكين من لا يستحقّ بديلاً عمَّنْ يستحق، وغير ذلك من العوامل المتشابكة المشابهة.
إنّ تهيئةَ أرضيّةٍ صُلْبةٍ جديرة بأن تحمل طموح شعب وقيادة، يجب أن تبدأ بالمواطن الفرد، فيغرس في وعيه أنْ لا أحدَ ينوبُ عنه في دوره.
كما يجب العمل على تنقية المناخ الاجتماعيّ من الأنفاس الفاسدة التي لوّثتْ فضاء الوطن بشعارات رعناء تدعو إلى التمييز بين أبناء الوطن الواحد على أُسسٍ فكريّة ومذهبيّة وقَبَليّة اجترُّوها من أزمنة التَّخلُّف والانحطاط الحضاريّ.
0