..
من حق كل مسلم أن يحتفل بنبيه عليه الصلاة والسلام، كيف لا وهو الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، سيد ولد آدم، وأفضل الرسل وخاتمهم، وحامل لواء الحمد يوم القيامة، وصاحب الشفاعة والمقام المحمود، وأفضل من مشى على الأرض.
وليس هناك أمة تحب نبيها مثلما تحب الأمة الإسلامية نبيها محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لذا حُق لها أن تحتفل به في سائر أحوالها وأيامها؛ إحياءً لسنته واقتفاءً لأثره، فهو الأسوة الحسنة والقدوة المثلى لكل مسلم أراد الله والدار الآخرة؛ لقوله جلَّ وعلا: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
والمحبة الحقيقية للنبي عليه الصلاة والسلام تعني اتباعه ظاهراً وباطناً، قولاً وفعلاً، خُلقاً وسلوكاً؛ لقوله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران: 31]، والاحتفال الحقيقي يكون بإحياء سنته عليه الصلاة والسلام، واقتفاء أثره، وإماتة البدع والاستحداث في الدين الذي أكمله الله تعالى، وتركنا رسوله صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء، ليلها ونهارها سواء، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقد حصر البعض الاحتفال بالنبي عليه الصلاة والسلام على الاحتفال بميلاده، مع ما في تاريخ ميلاده من اختلاف بين المؤرخين وأهل السير، فمنهم من يقول إنه كان في الثاني من ربيع الأول، ومنهم من يقول في الثامن والتاسع والثاني عشر منه، ومنهم من يقول إنه كان في رمضان، لكنهم يتفقون جميعاً على أنه كان يوم الاثنين عام الفيل 571م؛ وهذا الاختلاف بينهم؛ لأن نبوته لم تكن معروفة قبل البعثة، عكس وفاته التي اتفق المؤرخون على تاريخها.
وهنا يخطر سؤال: هل الأولى الاحتفال بميلاده عليه الصلاة والسلام أم الحزن على وفاته وهو الذي أخبرنا بأن أكبر مصيبة أصابت الأمة هي موته عليه الصلاة والسلام: (إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها أعظم المصائب) صحيح الجامع (347).
.وقد استدل البعض على الاحتفال بميلاده بقوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58] وأكثر المفسرين يرون أن المقصود بفضل الله في الآية الإسلام ورحمته القرآن، ومهم من قال فضل الله القرآن ورحمته الإسلام.
وحتى لو قلنا إن المقصود بالآية النبي عليه الصلاة والسلام، فالفرح لا يعني بالضرورة الاحتفال بمولده، وهل فات ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزلت هذه الآية عليه وهو الذي أكمل الرسالة ولم يترك خيراً إلا وأوصانا به، ولا شراً إلا حذرنا منه، وهل فات ذلك على الخلفاء الراشدين المهديين، وعلى الصحابة والتابعين في القرون الثلاثة المفضلة التي قال عنها رسولنا صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) رواه البخاري (2652) ومسلم (2533).
وهناك من يقول بأن من لا يجيز الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم لا يحبه، فنقول له: إن صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام وتابعوهم في القرون الثلاثة الأولى كانوا أكثر الناس حباً له، ومع ذلك لم يثبت احتفالهم بمولده إطلاقاً، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
وكما هو معروف فإن الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام لم يقع إلا في عهد الفاطميين (العبيديين) في القرن الرابع الهجري، أي بعد القرون الثلاثة المفضلة، فهل نترك عهد الصحابة والتابعين لنقتدي بالفاطميين الذين عرُف عنهم الانتماء إلى مذهب الشيعة الروافض الذي يسبون ويطعنون في صحابة النبي عليه الصلاة والسلام؟!
قال عنهم ابن كثير رحمه الله في (البداية والنهاية) (12/267): (كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد)، وهؤلاء العبيديون هم الذين ادعوا زوراً نسبهم إلى فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وقتلوا العلماء، وكانوا يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض كما وصفهم العلماء وأهل السير، قال عنهم الشاطبي المالكي في (الاعتصام) (2/44): (العبيدية الذين ملكوا مصر وإفريقية زعمت أن الأحكام الشرعية إنما هي خاصة بالعوام، وأما الخواص منهم فقد ترقوا عن تلك المرتبة، فالنساء بإطلاق حلال لهم، كما أن جميع ما في الكون من رطب ويابس حلال لهم أيضاً، مستدلين على ذلك بخرافات عجائز لا يرضاها ذو عقل).
كما أن الاحتفال بالمولد فيه تشبه بالنصارى الذي يحتفلون بميلاد عيسى عليه السلام وقد نهانا النبي عليه الصلاة والسلام عن التشبه بهم، وقال: (من تشبه بقوم فهو منهم) (4031)، وأخبر بأننا سنتبعهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع.
ثم لنسأل أنفسنا ونجيب بصدق: لو بُعث النبي عليه الصلاة والسلام ورأى ما في الاحتفالات من مخالفات ورقص واختلاط وتبرج وغيرها؛ هل سيرضيه ذلك؟
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أعياد المسلمين قاصرة على ثلاثة أعياد لا رابع لها، وهي: الأضحى والفطر والجمعة، وكل منها له صلاة خاصة به، فأين صلاة عيد المولد؟!
وعدم الاحتفال بميلاده عليه الصلاة والسلام لا يعني عدم محبته، ولكن يعني التمسك بسنته وعدم الابتداع بالدين بما لم يوصِ به عليه الصلاة والسلام الذي قال في الحديث الصحيح: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ)؛ رواه البخاري (2697) ومسلم (1718).
وكثير ممن يحتفلون بالمولد تأخذهم العاطفة دون دليل من كتاب ولا سنة، ومنهم من يقول إن هذا الاحتفال قديم ومنذ نشأنا ونحن نجد الناس يحتفلون به، وقد ذمًّ الله تعالى اتباع الآباء والأجداد دون دليل شرعي ولا برهان عقلي حين قال: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف: 22].
من كان محتفلاً بالنبي عليه الصلاة فليستنّ بسنته، وليقتفي أثره، وليطبق ما جاء به في نفسه وأهله ومن حوله، وليدعُ إلى ما دعا إليه من توحيد الله وإفراده بالعبودية، دون أن يحدث في الدين ما لم يأذن به الله وما لم يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم أو يفعله أو يقرُّه.