قراءة في أداء المفاوض الفلسطيني والمواقف العربية:
أثارت أمريكا الجدل مرة أخرى حول مستقبل مدينة القدس عندما اعترفت إدارة ترامب بها عاصمة لإسرائيل وأمرت بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس. وهو القرار الذي تم اتخاذه في الكونجرس عام ١٩٩٥م، وأعطى الصلاحية للرئيس الأمريكي لتأخير تنفيذه كل ستة أشهر، وحرص كل رئيس على التأجيل بعذر تهديده للأمن القومي الأمريكي، حتى يوم الأربعاء الماضي (6 ديسمبر 2017).
والحقيقة أن التأجيل لم يكن فقط لمصلحة أمريكا بل أيضا لحماية إسرائيل من ردود الفعل وتشجيعها على تحقيق السلام وتطبيع العلاقات مع جيرانها. فالاعتراف ونقل السفارة كانتا المكافأة التي ستنالها حكومة الاحتلال على تعاونها في مفاوضات السلام التي رعتها الولايات المتحدة منذ انطلاقتها في أوسلو بالنرويج ١٩٩٣، والتي انتهت باعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل مقابل اعتراف الأخيرة بالمنظمة كممثل وحيد للفلسطينيين. ثم تواصلت المباحثات في كامب دايفيد تحت الرعاية الأمريكية، وتوجت باتفاق تاريخي وقع في البيت الأبيض بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، ورئيس وزراء إسرائيل، إسحاق رابين، برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام ١٩٩٣م.
الإدارات الأمريكية المتتابعة، منذ إدارة الرئيس جورج بوش الأب، والتي وعدت بإيجاد حل للقضية الفلسطينية بعد إنهاء الاحتلال العراقي للكويت، عام ١٩٩٠، كانت تدرك أن مصلحة الكيان الصهيوني في تطبيق حل الدولتين على أساس حدود ١٩٦٧، السنة التي تم فيها احتلال القدس الشرقية.
وقد ساهم المفاوض الأمريكي في إيجاد مخرج “مفخخ” لعقدة القدس، بتأجيلها حتى مرحلة المفاوضات النهائية، وكان هذا هو الشرك الذي وقع فيه المفاوض الفلسطيني. فقد وافق أولا على خروج المفاوضات مع إسرائيل من الرعاية المشتركة (الأمريكية-الروسية)، كما كان الحال في مفاوضات مدريد، ١٩٩١ وقبل بأن يكون الطرف الأمريكي المنحاز هو الراعي الوحيد. ثم قبل بإستراتيجية المراحل التي خرج منها بأجزاء غير مترابطة من الضفة الغربية وغير متصلة بغزة، وبشروط مخلة بالسيادة كعدم تأسيس جيش، وبقاء المنافذ البرية والجوية والبحرية تحت السلطة الإسرائيلية وتحكمها حتى في المالية الفلسطينية وتدخلها في السياسات الداخلية والخارجية. أما المسائل الأكثر أهمية كمصير القدس وترسيم الحدود والسيادة فقد تركت لمَ عرف بمرحلة ”المفاوضات النهائية،“ مع عدم تحديد موعد لها.
آخر فرصة أضاعها المفاوض الفلسطيني كانت برفضه لعرض يطلب أقل منه اليوم، من الرئيس كلينتون عام ٢٠٠٠م، وبدون تقديم عرض مقابل. فيما قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود باراك شفهيا فقط، فقد عارضه الكنيست والمعارضة الإسرائيلية بعد عودته وكان سيسقطه في نهاية المطاف، لولا أن الرئيس عرفات سبق إلى الرفض، فتحمل بذلك مسئولية ضياع آخر فرصة للوصول إلى الحل النهائي.
المفاوضات والمبادرات التي تلت قبلها الطرفان ولكنها لم تحقق نتائج على الأرض، فقد جاءت مفاوضات طابا عام ٢٠٠١ ثم خارطة الطريق الأوروبية عام ٢٠٠٢ بشرطية وقف بناء المستوطنات وأعمال العنف، ولم يتحقق الشرطان. كما وقعت المبادرتان في نفس الشرك الأمريكي بتأجيل قضية القدس والحدود وحقوق العودة للمهجرين والسيادة وغيرها من المسائل الهامة إلى المرحلة النهائية.
مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز والتي تبنتها الجامعة العربية في قمة بيروت عام ٢٠٠٢م، ثم القمة الإسلامية الاستثنائية في مكة المكرمة، ٢٠٠٥م، كانت مبنية على مبادرة الملك فهد في قمة فاس عام ١٩٨٢ والتي أسقطتها إسرائيل بغزوها للبنان في نفس العام. وفي الحالتين قبل بهما العرب والفلسطينيون والمسلمون وتجاهلتهما إسرائيل.
ولم تكن تلك الفرص الوحيدة التي ضاعت، فقد كانت مبادرة الرئيس المصري أنور السادات متميزة من زاوية ارتباطها باتفاقيات السلام الكلي مع إسرائيل، بعد زيارته للقدس عام ١٩٧٧م، وكان بالإمكان أن تستخدم كقاعدة جيدة للتفاوض، لكن الرفض القاطع للمبادرة وحملة التخوين التي قادتها منظمة التحرير الفلسطينية ومن خلفها دول عربية مرتبطة بالمعسكر السوفيتي، (العراق وسوريا وليبيا والجزائر)، أوصلتنا إلى قطيعة مع مصر، ودفعت بالسادات إلى توقيع اتفاقية أحادية، لا زالت صامدة إلى اليوم، استعاد بها سيناء، وأنهى معها حالة اللاحرب واللاسلم مع الكيان الصهيوني.
الأخطاء توالت بعد الانقسام بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس، ورفض الأخيرة الاعتراف بإسرائيل وباتفاقيات السلام، مما أضعف موقف المفاوض الفلسطيني واستغلها الإسرائيلي ليعلن عدم جدوى التفاوض. ودخول إيران وحزب الله وسوريا وقطر على الخط مع المقاومة الفلسطينية أفسد توجهاتها وأضر بصورة القضية الفلسطينية ككل، وبعلاقات بعضهم حتى مع المحيط العربي.
واليوم، وبعد أن تحسنت العلاقات الفلسطينية-الفلسطينية وبدا أن اتفاق المصالحة سيؤدي إلى تشكيل وفد تفاوضي موحد ينهي العذر الإسرائيلي، والتحفظات الامريكية، يصدر قرار ترامب بشأن القدس، ليثير الزوابع من جديد، ويضعف معسكر السلام الفلسطيني، ويعيدنا إلى المربع الأول.
وبقدر مايتحمل الطرف الأمريكي والإسرائيلي (يجب النظر إليهما كطرف واحد) مسئولية فشل مبادرات السلام، علينا الإعتراف بأن الطرف الفلسطيني المنقسم في ولاءاته واجنداته العربية والدولية ضيع بدوره فرصا كان يمكن أن يستفيد منها بشيء من الدبلوماسية الحكيمة، الخالية من العنترية أو الإستسلامية. إلا أن أنانية ومصلحية بعض الفئات والشخصيات، وأيديولوجياتها الموزعة بين الماركسية والرأسمالية والإسلاموية والليبرالية، أفقد الجانب الفلسطيني وحدة الصف وتغليب المصلحة الوطنية، وأفقده البوصلة التي كان في أمس الحاجة إليها لرسم خارطة الطريق وتحديد الأهداف والأوليات. كما دفعه هذا التخبط إلى توجيه اللوم إلى الغير، المحلي والعربي والدولي، بدلا من مراجعة الأخطاء وتحمل مسئولية تصحيحها.
القدس ستبقى قضية إسلامية وفلسطين ستظل قضية عربية، وسنبقى عربا ومسلمين مع كل من يسعى لتحريرها، وضد كل من يعمل على تسليمها. وأقل ما يمكن أن نقوم به مقاطعة شعبية شاملة لكل المنتجات الأمريكية والإسرائيلية، وعودة المقاطعة العربية للشركات والجهات التي تتعامل مع إسرائيل، ومطالبة الدول الإسلامية وتلك التي تناصر الحق العربي بالمشاركة.
وعلى الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي إثارة القضية في كل المحافل الدولية ومواجهة المخطط الأمريكي-الصهيوني سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا، حتى نحشرهما في خانة وحيدة، لا يبق معهما فيها حليف. كما عليها تبني توصية مؤتمر وزراء الخارجية العرب يوم السبت الماضي (9 ديسمبر 2017) بالاعتراف بقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس.
لقد جربنا كثيرا من ردود الأفعال في العقود الماضية فلم توصلنا إلى حل، وعلينا اليوم أن نغير من إستراتيجتنا لعلنا نصل إلى الحل المنشود. والموقف الأمريكي الأخير كاف لتبرير المواقف الجديدة، فمن طرق الباب لا بد أن يلق الجواب!