عندما خرجت الجموع الغاضبة والمحتجة على نتائج انتخابات الرئاسة عام ٢٠١٠، والتي فاز فيها أحمدي نجادي على منافسه ”الإصلاحيين“ مهدي كاروبي، لم يعترض المحتجون في ماسمي ب“الثورة الخضراء“ فقط على ما اعتبروه تزويرا للانتخابات بل ركزت احتجاجاتهم على السياسات الإيرانية الخارجية والداخلية. كان أشهر الشعارات التي رفعت في المظاهرات وأزعجت حكومة الملالي ”لا غزة ولا لبنان، روحي فدا إيران،“ لأنه يلخص موقف الشعب الإيراني من المغامرات السياسية والعسكرية الخارجية وتداعياتها المدمرة على التنمية والاقتصاد والمجتمع.
أخرست الأصوات التي ارتفعت في الربيع الإيراني وقتها بالحديد والنار، فخرج الباسيج والحرس الثوري إلى الشوارع بكل أدوات القمع وزجت بقيادات المتظاهرين في السجون، وأنهت هذه المظاهرات قبل أن تنتشر كالنار في الهشيم، وتصبح مواجهتها أصعب.
هذه المرة يبدو التحدي أصعب، فالمظاهرات التي بدأت في طهران بعد الإعلان لبنوك يملكها الحرس الثوري (المسيطر الأقوى على الاقتصاد الإيراني) إفلاسها، قام بها أصحاب الاستثمارات الذين كانوا يتعشمون في زيادة فوائدها فصدموا بخسارتها كاملة. ولحقت بها
مظاهرات أخرى في مشهد، مسقط رأس خامئني، تدعو عليه بالموت، وتصفه بالديكتاتور، وعلى الرئيس روحاني، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة. ورمزية هذه المدينة تزداد أهمية عندما نعلم بأنها تحكم من قبل اثنين من حلفاء الخامئني، هما آية الله أحمد علم الهدى، وآية الله إبراهيم رئيسي الذي شارك وخسر في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كممثل لمعسكر المرشد الأعلى والتيار المتشدد. مشهد مدينة صناعية، وقد قاد العمال فيها هذه المظاهرات بعد أن عجزت الشركات والمصانع عن إعطائهم رواتبهم لقرابة العام. وعوضا عن تهدئة الجماهير، حرض ”علم الهدى“ السلطات عليهم بقوله ”إذا تركت وكالات الأمن وإنفاذ القانون مثيري الشغب وشأنهم فإن الأعداء سينشرون تسجيلات وصورا في إعلامهم يقولون إن نظام الجمهورية الإسلامية فقد عادته الثورية في مشهد.“
أصفهان، وهي ثالثة المدن الأكبر في إيران، بعد طهران ومشهد، التحقت بالركب، وخرج المعلمون والمتقاعدون فيها يطالبون برواتبهم وأموالهم التي ضاعت في بنوك الحرس. وهذه المدينة هي أيضا مدينة عمالية، متدينة ومحافظة، كان التحاقها بالثورة الخمينية في نهاية السبعينيات عاملا حاسما في انتصارها. كما قدمت عشرات آلاف الجنود في الحرب العراقية الإيرانية وفي سوريا، قتل منهم الوفا، ومنهم رجل فقد أربعة من أبنائه في العراق، وخامس في سوريا، ومع ذلك يعيش اليوم معدما.
الأهم في هذه المظاهرات أنها تضع أصبعها على الجرح، وتطالب الحكومة بإيقاف الدعم الذي تقدمه للمليشيات والأنظمة العربية والحروب التي تشنها في الخارج لتركز على الداخل. ففي إيران (حسب إحصائياتها الرسمية) ٢٠٪ يعيشون تحت خط الفقر ويعانون من البطالة والفقر والمرض، و٤٠٪ يحصلون على إعانة غذائية، عدا أولئك الذين ضاعت استثماراتهم ورواتبهم التقاعدية وتأخرت رواتبهم شهورا.
وفي الوقت الذي تتراجع الاستثمارات الداخلية توقفت الخارجية الموعودة بعد الاتفاق النووي بانتظار ما ينتهي إليه موقف الولايات المتحدة. وزاد الطين بلة حالة الفساد المستشرية على جميع المستويات، وبدأ الكبار يكشفون أسرار بعضهم، فأحمدي نجادي كشف وجود ٦٣ حسابا بنكيا لصادق لاريجاني رئيس السلطة القضائية، وفضح منافسون فساد أخيه علي لاريجاني رئيس البرلمان، وطالت الفضائح قيادات سياسية وحكومية وبنكية وعسكرية وأمنية تحصل على رواتب ومزايا خرافية فيما يتعذر على موظفيهم الحصول على رواتبهم. أضف إلى كل ذلك التضخم الذي بلغ ٢٠٪ سنويا وما أدى إليه من غلاء في المعيشة يفوق قدرة حتى الطبقة الوسطى، حليف النظام الأول، على الاحتمال.
الجرائم المالية من اختلاسات مليونية والجنائية من تعد على الحقوق الإنسانية والأخلاقية كالتحرش الجنسي وصلت إلى قيادات دينية ومؤسسات خيرية ومكتب المرشد الأعلى نفسه الذي دافع حتى النهاية وفشل عن عضو بارز فيه رفعت عليه قضايا تحرش جنسي بالأطفال الذين يدرسهم القرآن!
كل هذا تابعه الشارع الإيراني بغضب متراكم، ففي الوقت الذي لا يجد أب لأسرة كبيرة يسكن في بيت من الصفيح على أطراف طهران ما يكفيه من الطعام والدواء ووقود التدفئة، ولا يجد أبناؤه عملا، ولا يستطيع صغاره الوصول إلى المدرسة، يتسلم المرتزق الباكستاني والأفغاني واللبناني واليمني من خمسمئة إلى ألف وخمسمئة دولار راتبا شهريا ليقاتل في بلدان عربية، مع توفير كافة الخدمات من سكن وعلاج ومواصلات وملابس له ولأسرته. وفي الوقت الذي تتعذر الدولة بضعف الموارد المالية للقيام بواجباتها تجاه مواطنيها، تمنح الحكومة السورية عشرين مليار دولارا لتنفق على قتل مواطنيها، وتوفر لحزب الله مليار ومائتي مليون دولار سنويا ليقوم بأعمال إيران القذرة نيابة عنها، وتعطي للحوثيين والحشد الشعبي في العراق وغيرهما من المليشيات العميلة مئات ملايين الدولارات سنويا على شكل دعم مادي وسلاح وتجهيزات وتدريب ووقود. ولذا خرج الشارع الإيراني الجمعة الماضية في مدينة كرمانشاه وشيراز ولرستان والمحمرة وهمدان وقزوين وشيراز وزاهدان ورشت وخرم آباد والمحمرة بعد يوم من الاحتجاجات في مدن مشهد ونيشابور وكاشمر وشاهرود، بل ووصلت إلى العاصمة المقدسة قم والسياسية طهران، بشعارات من نوع (لا للغلاء) و(لا للفساد) و(دعوا سوريا واليمن والتفتوا إلى إيران)، و(أطلقوا سراح السجناء السياسيين والحرية أو الموت)، و(الشعب يتسول والآغا خائمني يعيش في نعيم) و(الموت لحزب الله).
وإذا كانت المدن الكبرى والمناطق الصناعية والتجارية تئن، فإن المعاناة أكبر في النائية والمهمشة وفي تلك التي تسكنها جاليات عربية وكردية وبلوشيه وكردية وأذارية وتركمانية وأفغانية، سواء سنية أو شيعية. الغريب أن أكثر من حمتهم الدولة من هذه المعاناة ووفرت لهم الدعم والمساعدة والمزايا هم اليهود والنصارى! ودعك من الشعارات التي جاءت بها الثورة الخمينية ورددتها الجماهير من طهران وبيروت إلى صنعاء وصعدة (الموت لأمريكا وإسرائيل واللعنة على اليهود) فهي كما شرحت حكومة روحاني وقبلت إدارة أوباما، مجرد شعارات!
لقد أرتكبت إيران نفس الخطأ التاريخي الذي ارتكبه الإتحاد السوفيتي وأدى إلى أنهياره، فقد دخل في سباق تسلح ونفوذ مع الولايات المتحدة وأنفق نسبة عاليه من دخله على الجيش، وعلى والأنظمة والجماعات الحليفة من كوريا الشمالية إلى كوبا، ومن بولندا إلى أنغولا، وحرم شعبه كفايته من المواد الأساسية فضلا عن الكمالية. وكما سقطت الإمبرطورية الروسية ستسقط الإمبراطورية الساسانية المستكبرة تحت أقدام شعبها العظيم. وعلينا أن ننأى بأنفسنا حتى تُستغل تهمة التدخل الخارجي في التنكيل بالمتظاهرين. فهذه مهمة المعارضة في الخارج لتوجيه الجماهير كما على المنظمات الحقوقية الدولية والإعلام والمجتمع الدولي مراقبة أداء أجهزة الحكومة الأمنية والعسكرية لحماية الشعب من القمع.
إيران تتحرر .. مرحبا بإيران الجديدة.