المقالات

الشاعران البيضاني وعبدالواحد وانطلاقتهما الشعرية

حين أسرد بعض المشاهد والمواقف التي مرت عليّ فإنني أسجلها من منظوري الخاص، بمعنى أنه ليس من الضرورة أن تكون متطابقة مع رؤية الآخرين من مجايلي، وهذا الرصد يخصني ربما أكون مخطئا أو مصيبا، دقيقا أو ناسيًا لبعض الجوانب، لذا فهي مذكرات ولا تدخل في سياق الرصد التاريخي الموثق، وهنا وددت الإيضاح حتى لا يحمّلني البعض بما نسيته أو تجاوزته، أو حتى عجزت عن إيصاله، والجانب الآخر وددت الربط بين الشاعر والمكان، ولا يعني بالضرورة أنه لولا المكان لما برز الشاعر فالشاعران اللذان أعنيهما هما شاعران موهوبان سواء مرّا على المكان الذي شاهدتهما فيه، أو لم يمرا، وهنا سأنعطف في حديثي عن الموقفين اللذين خلدا في ذاكرتي، لسبب أراه منطقيا إلى حد بعيد أنهما كانا في بدايتهما الشعرية، وهذا الذي لم تتعود العين على رؤيته كشعراء في سنيهما، فالساحة الشعرية كما كنا نظن تحتاج إلى شعراء بلغوا من العمر ما يؤهلهم لأن يلقوا القصيد، ليس فقط في ثقتهما الكبيرة وهما في وسط المعراض بل لقدرتهما الفائقة في نسج القصيد بدعا وردا، موقفان لا يمكن نسيانهما للبدايات الأولى لشاعرين شعبيين أصبحا من أبرز شعراء الساحة على مستوى المنطقة الجنوبية بكاملها، وشق الشاعران الشابان طريقهما بنجاح وثقة وتألق، وقبل أن أفصح عن اسميهما، وددت نبش الذاكرة فأحدهما جاء للمشاركة في إحياء العرضة الشعبية في سوق رغدان وكان وقتها صغيرا في سنه، كبيرا في موهبته، مما لفت انتباه الجميع، كيف تمكن هذا الشاب الصغير مجاراة شاعر كبير ومتميز كخرصان، خصوصا وأن لا أحد يجرؤ على الوقوف في منتصف العرضة ما لم يمتلك القدرة والموهبة ، إلا أن هذا الشاعر الشاب يقف وينسج القصيدة تلو القصيدة بل يقف موقف الند ردا سريعا ومنسجما وبدعا أصيلا، (وقد سئل الشاعر خرصان في تلك المناسبة عن تقييمه لهذا الفتى فقال بأن هناك جنيّة تتكلم على لسانه وهي عبارة تقال لفرط الإعجاب والدهشة من موهبته الشعرية) ولما انفض العراضة قبيل المغرب ليكون موعد العرضة أيضا في المساء، وكانت المفاجأة أن طوّق العم سعيد الفقعسي هامة الشاعر بعقال كهدية له ورفعا لشأنه وإعجابا بقدراته وموهبته ليستمر في تألقه سواء في قصائد العرضة أم المسحباني أم اللعب ليستمر التنافس إلى منتصف الليل،- كما هي الذاكرة غير وفية في حفظ تلك القصائد – وحتى لا يفهم من كلامي أن الشاعر غير معروف قبل هذه المناسبة بل لأن سوق الأحد برغدان يعد أحد أبرز الأماكن التي شارك فيه شعراء قدامى أمثال عبدالله الزرقوي والزبير ومحمد بن ثامرة وجماح وغيرهم، وهناك موقف يسجل للشاعر عبدالله الزرقوي قبل قرن من الزمن، إذ صعب على أصحاب الزيجات كسوة الشعراء لكثرتهم وقلة الإمكانيات وقتها فما كان من أصحاب الحل والربط في القرية أن اتفقوا بوضع مبلغ من المال في صرة وثبتوا الصرة في جذع شجرة الرقاع وقال قصيدته كنوع من الإثارة والتحدي بوجود شعراء مجيدين من غامد وزهران 
يقول في قصيدته:
والله ثلاث ايمان وعليّ الطلاق
يالصرّة المصرورة اللي في الرّقاعة
لاعطي بجهدي وانتكتها كلها
ودارت رحى المنافسة ليضع جنبيته كهدية لمن يتمكن من الرد على قصيدته والتي يقول فيها:
أهل بالغاوي هبوا للكرم موكب كبير
نال بعدها استحقاقه من المال ليقول: ما أسرع الزرقوي وتغانى….
إلى آخر القصيدة
وهنا نعود إلى ذات المكان سوق رغدان الذي شهد مناسبات شعبية عديدة لينطلق الشاعر والذي تحدثنا عنه في بداية المقال من ذات المكان ويصبح بعد مضي سنوات قلائل أحد فرسان الشعر الشعبي ولا أدري إن كان يتذكر ذلك الموقف أم مسحته الذاكرة، وهو معذور حيث مر عليه مئات المناسبات المماثلة إلا إن مشاركته خلدت في ذاكرة الكثيرين الذين حضروا تلك المناسبة وما زالت أحجار السوق شاهد على ذلك.

ذالكم الشاعر هو عبدالله البيضاني والذي اشتهر في بداياته باسم الهريري نسبة لقريته بني هريرة..إحدى قرى بيضان.
أما الشاعر الآخر فهو ملء الإبداع والجمال ففي عام 1405 وعمره لم يتجاوز 14 عاما شارك مع والده في إحياء عرضة شعبية في الحازم برغدان. إنه الشاعر المتألق عبدالواحد سعود الزهراني وما زالت بعض التسجيلات الصوتية والمرئية محفوظة لدى البعض ليضع لنفسه مكانا لائقا في المربع الأول بين شعراء الجنوب وقصائده بحق تتناقلها الركبان منها طريق الجنوب أبو علي والنافورة وغيرها.

والحديث عن الشاعر عبدالواحد يطول ويطول وليس من السهولة إيجازها في مقال محدود فقط ربط الموضوع بشيئين هما المكان والبدايات الأولى للانطلاق، أعود إلى كتاب الراحل علي السلوك يرحمه الله حيث دون الكثير من القصائد وكانت رغدان مكانا لأروع القصيد ويعود في نظري لعدة أسباب أولا وجود السوق الشعبي الأسبوعي الذي استمر قرونا لينطفئ في الثمانينيات ووجود ساحة واسعة تقام بها العرضة، فضلا عن كثرة سكان القرية مقارنة بغيرها في ذلك الوقت، إلى جانب المعزز الجمالي في أرواح سكان القرية بتشجيعهم للمناسبات الفرائحية، ويمكن القول بأن آخر أغصان الجمال هو العم سعيد الفقعسي الذي يعد المكون الأساس للعرضة لعشرات السنين وسبقه الكثيرون في أزمنة قديمة.
المكان يحفظ دقائق الأمور كالبشر..

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button