بما أن الطفولة عامرة بالدهشة والاستغراب، وكل ما تواجهه وتعرفه في حياتها اليومية يعد دون أدنى شك محطة من محطات التلقي المعرفي، إلا أن تلك المحطات يمر بها لحظات عاصفة قد تعصف بالطفل عصفا شديدا حد الصدمة، وقد يرقى ذلك الأمر إلى مرحلة الصد المعرفي وعدم قبول متواليات شئون الحياة وتفرعاتها المختلفة، ما يعني أن الطفل قد يقف في مفترق طرق ذي شعبتين (التلقي والرفض) ويعتريه نوع من الذهول وحتى الخذلان التام، وهذا قد لا يدركه الكبار لأن نقل الواقع بوقائعه المختلفة يشكل على تلقي الطفل على اعتبار المعرفة تراكمية تحرز شيئًا فشيئا حسب المرحلة العمرية، وأنا أتحدث من منطلق تجربة مررت بها، فقد مرّت علي تجربة عندما كنت طفلاً وأخي الأكبر يصف بعدا مشهديا متعددا ومتنوعا من حياة المدينة التي زارها لأول مره في التسعينيات الهجرية، كان ذلك في نظري حينها يصعب التعامل مع تلك الأوضاع وسط ركام ازدحام المدينة، فالبعد السماعي مع غياب تام للمشهد قد شكل لدي لحظات عاصفة شديدة، بل إنني أعتبرها آن ذاك عاتية كالريح الصرصر، وأنا أصغي لحوار قد لا يكون بالضرورة موجه لي، فالإغراق في الوصف وتهويل الأشياء وإن كان ذلك محمودا في جانب اللغة إلا أنه قد يدهش الطفل ويقوده إلى حالات من القلق والتوتر وخصوصا إذا لم يكن هناك معايشة حالية لما يوصف في أرض الواقع، بل لربما توصل إلى حالات من الرهاب لدى الطفل وخصوصا عند شعوره أنه سوف يمر بذلك الطريق في المستقبل لا محالة، بحثا عن حياة أفضل لمنافذ الرزق في ظل تراجع حياة الريف واختلاف طبيعتها وشح عطائها، فإن هذا الأمر يتعاظم في نفس الطفل ويتراجع عنه ويرفضه تمامًا خشية أن لا يقع فيه وفي براثن شركه، ليس لأنه صعب في حقيقته بل لأن مرحلته العمرية أصغر بكثير مما يتلقاه وخصوصا مع الاختلاف والفارق الطبيعي بين حياة القرية كواقع يعيشه والمدينة بزخمها وزخرفها الغائب، فقد كان يدهشني كثيرا الحديث عن حياة المدينة (الطائف) التي سافر إليها أخي لأول مرة، وشعرت بذلك الشعور الذي يصل حد الذهول حتى إنني فضلت الانزواء والابتعاد عن ذلك العالم الذي يعج بالصخب والضوضاء وتداخلات الحياة السريعة، فقد اعتبرتها حياة مظلمة حد العتمة.
إن ذلك الحديث وضعني في حوار مع الذات وفي تساؤل مستمر كيف لي أن أواجه ذلك العالم المتلاطم المليء بالمتغيرات والمداخلات السريعة بالنظر إلى رتابة الحياة في قريتنا الصغيرة، حركة السيارات التي لا تسمح لك بالمرور ، سرعاتها المتناهية وهي تنزلق على الإسفلت مع هواء مندفع يخل بتوازنك، شاحنات تتعطف في الطرقات مع سائق يقبع في مقصورة متناهية الارتفاع ذلك حال الوصف ولا يدرك ما يدور على الأرض وفي زخم الحياة وزخرفها قد ُتدهس فجأة، وهذا الأمر أبعدني كثيرا رغم رغبة الطفولة الجامحة للمعرفة وسبر أغوار الشيء وحب الاكتشاف، فقط غلطة واحدة تكلفك الحياة، أتخيل من خلال الوصف ذلك البساط الأسود الناعم هو الآخر يحتاج إلى حذر ووعي وحيطة كي لا تنزلق في ممراته، وتدهسك جموع الناس وهي تغدو وتروح ذهابا وإيابا تسابق الزمن للحاق بزمام الوقت، تزاحم الناس في مشهد متسارع، الكل ينتهز الوقت والبضائع يتخطفها الناس من حولك صورة رأيت فيها أن البقاء للأقوى والمحتال وحتى المراوغ، كيف لي أن أعيش وأتعايش مع هذه المشاهد فربما نقاء القرية ولد هذا الشعور، تلك المشاهد وذلك الوصف حددت بدئيا ممارسة أولى لطريقة التعامل والمواجهة مع الحياة عند ذلك أدركت أن للطفولة بعدا آخر يجب أن نتعامل به ومعه، هذا المفهوم لا ينفصل عن الفكر الإسلامي بل يتوافق معه تماما فقط علينا أن نوفر المعلومات المناسبة للمرحلة العمرية مع مناخ مناسب وحوار هادئ وستظل الطفولة مستودعا للائتمان الحقيقي لكل ما يرد إليها من معلومات، ومن جانب أخي كان كل لقاء يجمعنا يدور فيه حديث مشوق ماتع نستلهم فيه الماضي عندما كنت طفلاً … وإلى لقاء
ماجستير في الأدب والنقد