طرحت هذا السؤال: (لماذا تشاغب قطر؟) في استبيان على حسابي في تويتر، ووضعت معه أربعة خيارات: ١. عقدة العظمة، ٢. شوفوني لا تنسوني، ٣. عليّ وعلى أعدائي، ٤. الغريق لايخشى البلل.
جاءت النتيجة النهائية بعد أربع وعشرين ساعة لصالح الخيار الأول (٤٧٪) ثم الثاني (٣١٪). أما الثالث والرابع فلم يحظيا إلا بنسب ضئيلة.
أحد المشاركين اقترح خيارا رابعا: ”هبله ومسكوها طبلة“، وهو مثل شعبي حجازي، ينطبق على حكومة طائشة لديها شبكة قنوات وصحف ومواقع مختلفة تمكنها من إثارة الضجيج طوال الوقت، ومشاغبة من تريد باستخدام القوة الناعمة، وتحريض الجماهير وإشعال الفتن.
لا أدري كما سيحظى الخيار الأخير لو كان ضمن القائمة، ولكنه يلخص كل ما سبق. تحفظي الوحيد أن التهور القطري لم يأت من فراغ، بل نتيجة لاستراتيجية مدروسة هدفها إشباع الخيار الأول بتعظيم الذات وتهويل المكانة لمن يضيق عليه ثوبه، ويقصر عن هدفه طوله، ويشعر بأن مكانه على رأس الطاولة لن يتحقق بالإمكانيات الذاتية. وآليات هذه الاستراتجية تسعى دائما إلى لفت الانتباه طوال الوقت، تحقيقا للخيار الثاني. فكل تحرك سياسي أو إعلامي أو اقتصادي أو حتى رياضي يصرخ ”نحن هنا.“
رأينا هذه الحالة في ظروف مماثلة لدى كثيرين في الماضي والحاضر. فرئيس أوغندا السابق عيدي أمين استطاع بالفعل أن يشغل العالم جل الوقت، في السبعينيات الميلادية، وأن يتصدر الإعلام الدولي بتصرفاته الخرقاء وتصرفاته الصبيانية الخطرة. وكذا فعل القادة روبرت موجابي في زيمبابوي، موبوتو سيسيكو في زائير، ومعمر القذافي في ليبيا، وهوجو شافيز في فنزويلا، وفيديل كاسترو في كوبا وصولا إلى كم جونغ أون وأبوه وجده في كوريا الشمالية، وحمد ابن خليفه آل ثاني في قطر.
ويجمع بين كل هؤلاء داء العظمة المحاصر بأسوار الواقع. فبعكس أباطرة التاريخ كالإسكندر الأكبر الذي استطاع أن يوسع دائرة حكمه من مدينة يونانية صغيرة إلى إمبراطورية عالمية تمتد عبر ثلاث قارات، أو من تبعه في عصور تلت كنجكيز خان باني الإمبراطورية المنغولية وعثمان أرطغرل مؤسس الخلافة العثمانية، ونابليون بونابرت وإمبراطوريته الفرنسية، ثم أدولف هتلر ودولته النازية، فإن زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة لم يعد يسمح بالتوسع خارج الحدود المعترف بها دوليا. ومن غامر بتحدي الإرادة الدولية كصدام حسين بغزوه للكويت وتهديده لدول الخليج خسر رهانه وصولجانه.
ولكن النظام الدولي الجديد لا يمنع الهيمنة باستخدام القوة الناعمة: السياسة والاقتصاد والثقافة والإعلام. والولايات المتحدة الأمريكية تحكم العالم بسيطرتها القوية على شبكات المعلومات والترفيه والتواصل، إضافة إلى إمكاناتها العلمية والعسكرية والصناعية. ولذلك سهل على قادتها استخدام الدبلوماسية الخشنة والناعمة في بناء التحالفات ونشر القواعد العسكرية والحضور القوي في المناسبات والمنظمات والأنشطة العالمية ونشر الثقافة والترفيه وترويج المنتجات وتقديم المساعدات، إلى ما إلى ذلك من وسائل التأثير، وكسب العقول والقلوب.
هذه المصادر الهائلة التي تعتمد عليها قوى عظمى كأمريكا والصين وفرنسا وبريطانيا في التوسع خارج حدودها ليست متوافرة لكل طامح في دخول حلبة المنافسة. وحتى دول مقتدرة كاليابان وألمانيا وإيطاليا تجد نفسها مكبلة بقيود فرضتها هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. فيما تكتفي دول كبرى كالبرازيل وجنوب أفريقيا بالتعاون مع جيرانها كأخ أكبر، ومع العالم كلاعب كبير.
وفي المقابل، هناك دول بإمكانيات أقل وطموح أكبر، كروسيا وإيران وتركيا، أو كوريا الشمالية وقطر، ترى أن من حقها امتلاك واستخدام أدوات القوة والتأثير في المحيط ومابعده. وبالنسبة للدول الثلاث الأولى فإن هاجس التاريخ أصبح حافزا قويا لاستعادة أمجاده. والإمبراطوريات التالدة قد لا تكون ممكنة عن طريق الإحتلال المباشر، إلا أن الهيمنة لا تزال خيارا متاحا.
مشكلة قطر الكبرى أن طموحاتها المستقبلية لايبررها ماض أو حاضر. ولأنها تدرك محدودية إمكانياتها الجغرافية والسكانية والسياسية والاقتصادية، وغياب الإرث التاريخي، فقد ركنت إلى التحالفات. وللتغلب على التناقضات الطبيعية بين الحلفاء فقد لجأت إلى الرقص على الحبال والتقافز على الخلافات. وهكذا فقد جمعت بين القاعدة وطالبان وإيران وروسيا وفنزويلا وكوبا من جانب، وأمريكا والغرب ودول الخليج في الجانب الآخر. ووفقت علاقاتها مع القوميين والإخوان المسلمين واليساريين العرب، في الوقت الذي تتعاون فيه مع تركيا وإسرائيل وروسيا وليبيا. وهي تدير هذه الشبكة المعقدة والحرجة بالاستعانة بغير القطريين من العرب والأجانب.
وعندما انطلقت شرارة الخريف العربي في تونس، وجد النظام القطري فرصته التاريخية لتحقيق إمبراطوريته المشتركة مع تركيا ومصر برعاية أمريكية وتقاسم مع إيران وتعاون مع إسرائيل. وتم إقناع إدارة أوباما بدعم ”الإسلام المعتدل“ المتصالح مع الشيعة والمؤمن بالديمقراطية، وهو الخط الذي يمثله الإخوان المسلمين. وبعزل ما أسموه ”الإسلام المتشدد“ الذي تمثله السعودية. وكاد المخطط أن ينجح بعد صعود الأحزاب السياسية التابعة للتنظيم الإخواني الدولي إلى سدة الحكم في البلدان العربية التي اشتعلت فيها الثورات المدعومة قطريا وتركيا. ولولا يقظة السعودية والإمارات ووقوفهما بحزم أمام هذا المخطط لواصلوا المشروع في بقية بلدان الخليج.
انكشفت المؤامرة بعد التسريبات الصوتية بين الحمدين والقذافي، وإحباط مخططات انقلابية وتقسيمية في كافة دول الخليج (ما عدا قطر وعمان). وتراجع المد الإخواني في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا والأردن والإمارات والكويت والبحرين. ثم خسر الديمقراطيون في الولايات المتحدة برسوب مرشحتهم هيلاري كلينتون، وعاد الجمهوريون يحمل أجندتهم الرئيس دونالد ترامب، ليوجهوا الضربة القاضية لمشاريع الخلافة بكل أشكالها: الشيعية في طهران والسلفية في الموصل والإخوانية في القاهرة إأسطنبول والدوحة.
انتهى الحلم العظيم ولم يستيقظ الحالمون. ولازال صناع الوهم يتمسكون به، ويواصلون العمل على تحقيقه. فليس من السهل عليهم بعد كل الجهود التي بذلوها والأموال التي أنفقوها والأتباع الذين جندوهم والتحالفات التي بنوها أن يعترفوا بالفشل ويطلقوا صفارة النهاية. يماطلون ويناورون كسبا للوقت، لعل وعسى أن يتغير اتجاه الرياح إلى حيث تشتهي سفنهم. ومع أن كل المخططات باتت كتابا مفتوحا، لازالوا يتذاكون بالإنكار تارة والتبرير أخرى.
ثم جاءت المواجهة الأخيرة والمقاطعة الرباعية لحكومة الحمدين. ورغم محاولات التهرب والتملص بشراء الوساطات والمراهنة على الضغوط الدولية، لازالت الدول الأربع مصرة على موقفها، ولازال الاقتصاد القطري يواصل النزيف. وزاد الوضع سوءا تجاهل هذه الدول والعالم للمسألة والانشغال بملفات أكبر وأهم. ومن هنا جاءت المناورات والمناكفات القطرية الأخيرة، وآخرها المطالبة ب“تدويل الحرمين“ في محاولة لاستعادة المبادرة والحضور وإثارة الانتباه.
على أصحاب مشروع الخلافة أن يدركوا أنه كلما تأخرت اليقظة والتحول، كلما اتسعت الرقعة على الراقع وزادت كلفة العودة إلى الواقع والتأقلم معه. وكلما استمرت المماطلة والمكابرة كلما زاد رفض الآخرون لهم وضعفت فرص إعادة تأهيلهم واستيعابهم. وأن الغرب والشرق سيسرقهم ويبتزهم ولن ينفعهم. وباختصار، فإن طريق النجاة لامناص له من الوقوف في محطة الرياض.