إن الصداقات لكي تستمر لا بد من التغاضي عن عيوب الأصدقاء وهفواتهم فلا يوجد إنسان كامل فالكمال لله وحده، كان هذا جزء من نقاش عن الصداقة دار بيني وبين بعض الزميلات. وكان تعليقي على موضوعهم أن المشكلة ليست في تقبل عيوب الأصدقاء وإنما وفي وجود وتوفر الأصدقاء .. فقلما نجد صديقا يتحملنا ونتحمله، ونساعد بعضنا في أوقات نحتاج فيها إلى صديق يساندنا، ولو وجد لتغاضينا عن العيوب.
في الحقيقة قديما كانت الصداقة بريئة وبسيطة وتكتسب بسرعة. كما أن كل منا في بداية حياته كون عددا من الصداقات وظننا أنها ستستمر العمر كله وأنه لن يفرقنا أحد ولكننا مع مرور الزمن وتغير الأحوال وإنخراط البعض في أمور الحياة ضعفت العلاقات، وأصبحت الصداقة مجرد ذكريات أيام الدراسة .. نتذكرها ونبتسم لها. وكأنه من الطبيعي أن يكون لك صداقات في بداية حياتك وتتلاشى مع الوقت وتكالب الأحداث وتغيرها عليك وعليهم. ومع زحمة الحياة وأمورها وانشغالك بنفسك قد لا تستطيع أن تُكون علاقات خارج إطار العمل، إلى أن تصبح في مرحلة عمرية يصعب معها تكوين صداقات جديدة، وتظل على ذكرى صداقات الدراسة.
هذا ما كنت أتوقعه، إلى أن وقع بين يدي كتاب (في أدب الصداقة)، وهو كتاب يشمل مجمل الرسائل التي تداولت بين صديقين الأول هو الأديب المنفي/ عبدالرحمن منيف (1933-2003م) والصديق الثاني هو الرسام/ مروان قصاب باشي (1934-2016م). الذين جمعهم الفن رغم تباعد المسافات، وظلت الرسائل المكتوبة بينهم تحمل أجمل معاني الصداقة التي دامت لسنوات طويلة. رسائل تخلو من الكلمات النابية في حق أحد ومن أي تعريض بأحد. ولا نجد فيها غير الدماثة والوفاء والاهتمام الحقيقي بالآخر والتواطؤ العميق معه. علاوة على القيمة الأدبية ..
ورغم أن الكتاب كان عبارة عن رسائل بين صديقين نشرت كما هي دون إضافة أو تعديل لدرجة أنه قد يشعرك بالملل وأنت تقرأه؛ لأنه يضم التفاصيل بين صديقين لا تهمك من قريب أو بعيد، إلا أن المعنى المبطن خلف هذه الأمور هو ما يجعل لهذا الكتاب قيمة كبيرة ورونقا خاصا.
فعندما تتخيل أن صديقين يتواصلان مع بعضهما في تفاصيل الأمور، وفي نقاش عملي وإنساني وسياسي من خلال مكاتبات قد تكون بدأت عام 1990م، وهو تاريخ أول رسالة في الكتاب، أي قبل ظهور الواتس أب والتويتر وحتى الإيميلات التي تسهل التواصل.. مكاتبات كانت بين صديقين تخلو من أي مصلحة أو منفعة غير محادثة النفس للنفس. رسائل إن تأخر أحدهم في إرسالها للآخر يشعر بضيق وقلق عليه، رسائل أخذت منحنى النقاش والفضفضة عن أمور يصعب مناقشتها مع أحد والتي تنم عن تفاهم رغم بعد المسافات عظيم فهم يبدأون رسائلهم بعبارات مثل إلى الحبيب، العزيز، الصديق، الأخ.. وفي كل مرة تقرأها تشعر بعمق العلاقة بينهما.. وعندما تقارنها بسهولة التواصل في الزمن الحالي والذي مع سهولته وتعدد طرقه قد يعجز أحدنا اليوم عن إرسال رسالة قص ولصق لصديق قديم له.
وهنا يداهمني أسئلة وليس سؤال. لماذا لا نحظى نحن بمثل هذه الصداقة؟ ولماذا أصبحت الصدقات يكسوها الكثير من المجاملات والمصالح؟ وهل لو مرت علينا السنين سنذكر أصدقاءنا ويذكرونا بذات العبارات التي ذكر فيها مروان قصاب صديقة بعد مماته أو حتى بعبارات قريبة منها..
و لو بدأنا القصة من أولها وعرفنا الصداقة لنلاحظ التغير الذي حدث. فالصداقة في اللغة: مأخوذة من صَدَقَ، وهي عكس كَذَبَ لأنّ الصديق يصدّق صديقه (يكون صادقا معه) ويصدّقه. واصطلاحا: هي علاقة صادقة تنشأ بين بني البشر، تسودها المودة والنصيحة، فهي لا تقتصر على علاقةٍ سطحية، إنما هي مغلّفة بالمحبة والتسامح والعون، حتى يكاد الصديقان يتشاركان أعباءَ الحياة كلَّها.
إذًا فهناك عدة أمور يجب توافرها في مفهوم العلاقة بين شخصين لكي ترتقي إلى مستوى الصداقة ويتزن الميزان وهي: الصدق، المودة النصيحة، التسامح، المحبة، والعون. وعند اختلال الميزان لا ترتقي العلاقة إلى الصداقة.
وقد يكون لعالمنا الحالي الشديد الإلكترونية والسريع في وتيرته، تأثيرا على ميزان الصداقة ومفهومها. فالصداقة أصبحت تقاس بمقياس المصلحة، ما الفائدة التي ستعود علي من هذه الصداقة لدرجة أنه قد يقول لم أستفد منك شيئا، وكأن التعارف بالأشخاص لا بد من مصلحة نرجوها من ورائه.. كما أصبح الأفراد لا يرغبون بسماع غيرهم ومشاكلها ولسان حالهم يقول: (إيش لي والمشاكل) والأجدى أن نبعد لتفادي المشاكل. فهم معك طالما أن وجودهم معك غير مكلف لا عاطفيا ولا إنسانيا ولا ماديا، وقد يبعدون عنك ويقولون لك صراحة: (لما تحل مشاكلك إتواصل معنا).. أصبحت صداقات إما أن يغلفها كثرة العتاب لحد التجريح أو انعدامه لحد الثناء على الأغلاط أو السكوت عنها..
وليست هذه هي الصداقة.. فالصداقة أن يتقبل الطرف الطرف الآخر بكل ما فيه من عيوب وحسانات، طالما أنها لا تؤثر على دين أو قيم أو مبادئ. لا تتوانى عن نصحة وإرشاده متى ما أحتاج للنصح، وإن لم يتقبل نصحك فستقف معه في كل الأحول فهو صديقك الذي يجب أن تشاركه لحظات الهبوط والصعود الفرح والترح فصنع خبرات مشتركة بين الأصدقاء هو ما يقويها ويفرض استمراريتها..
لا تجعل الصداقة مجرد رسائل إلكترونية مقتبسة من مواقع الإنترنت فهذا أبدا لا يكون الصداقات والأفضل أن تجعل وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة تعزز ربطك بصديقك، حاول مشاركته لا إقصائه. لا تجعل عدد أصدقائك بالملايين استنادا لمواقع التواصل الاجتماعي فهم أصدقاء افتراضيون لم ترى منهم ولم يروا منك إلا جانب واحد.. ولكن الصديق هو من يتواجد إما جسديا أو عقليا أو نفسيا معك فالمشاركة تقوي الصداقة وتضمن استمراريتها.
ولا زال العالم يتسارع أكثر من ذي قبل ولا زلنا نبعد عن نمط الصداقة المعتاد، وبدأت تأخذ الصداقة أنماط مختلفة وأشكال أخرى ولا ضير في ذلك المهم أن يكون ويظل فعلاً الصديق وقت الضيق.
يذكرني هذا الموضوع بما نشهده حالياً من العلاقات الهشة والتي يتخيل البعض أنها صداقة ولكنها تعارف مصالح وهذا ما وضحه امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما شهد عن عمر بن الخطاب رجل شهادة ؛ فقال له : لست أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك فأت بمن يعرفك . فقال رجلٌ من القوم : أنا أعرفه . فقال بأي شيء تعرفه ؟ قال : بالعدالة والفضل . قال : فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه ؟ قال : لا . قال : فمعاملك في الدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع ؟ قال : لا . قال : فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق ؟ قال : لا .
قال : لست تعرفه . ثم قال للرجل : ائت بمن يعرفك
لذلك الصداقة مبنية على حق المعاملة التعامل هو الذي يولد الصداقات
تحيتي اليك سيدتي الغالية.