توسعة الحرم المكي

“وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ” (الحج: 27)
منذ أذن الله لنبيه أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام بالآذان للمؤمنين؛ ليقبلوا رجالًا وركبانًا، وعلى كل ضامر، ولو من كل فج عميق؛ ليشهدوا منافع لهم، وليطفئوا ظمأهم إلى القرب من الله تعالى، بأن يطوَّفوا بالبيت العتيق، ومن يومها والعمران لا يتوقف، بغية أن يحظى ضيوف الرحمن بأفضل خدمة، تعلق في أذهانهم وذواكرهم، كي يظلوا في اشتياق دائم إلى بيت الله الحرام ومسجد رسوله الكريم.

ولأغرو أن الحرمين الشريفين – لذلك- يحتلان مكانة سامية من نفس كل مسلم، وضمير كل مؤمن، لأهميتهما البارزة في عقيدتهم وسائر عباداتهم، فإليه تتجه الوجوه خمس مرات في اليوم للصلاة، وتشرئب الأفئدة مرة على الأقل كل حول؛ للحج أو العمرة، أو هما معًا.
ولا شك أن سدنة الحرمين لا يألون جهدًا، ولا يدخرون وسعًا، في سبيل النهوض بوسائل الراحة للوافدين، ولا طرائق الرفاهة للطائفين والركع السجود، سواء ببيت الله المحرَّم، أو بمسجد رسول المكرَّم.

وعلى صدق ما نقول، تشهد مشاريع التوسعة المتتالية المتواترة التي لا تتوقف. وقد بدأت هذه التطورات في عصر مبكر؛ بداية من المؤسس، الملك عبدالعزيز رحمه الله؛ فقد أمر جلالته -رحمه الله- بداية من عام 1375هـ بتوسيع منطقة الحرم، وعلى يديه وصل عدد أبواب الحرم إلى 64 بابًا.
وبتلك التوسعة -التي سميت بالتوسعة السعودية الأولى واستمرت أكثر من 20 عامًا- أصبح
المسجد الحرام يستوعب أكثر من 300 ألف مُصَلٍّ في الوقت نفسه؛ لأن مساحته زادت من30 ألف متر مربع تقريبًا إلى 193 ألف متر.
واتسمت تلك التوسعة بالسمات الآتية:
– الجمع بين أكثر من أسلوب معماري من الأنساق الإسلامية والطرز التاريخية.
– الطابع المركب للزخارف؛ إذ استعمل فيها العديد من الأشكال الهندسية المتداخلة والمركبة، لتنتج شكلًا نهائيًا واضحًا.
– استخدام الأرابيسك بانتهاج أشكال نباتية.
– كسوة الجدران بالرخام، وصنع الحواجز من الألومنيوم، وكتابة الآيات بالقشرة المذهبة.

وفي عام 1381هـ تم إنشاء (وزارة الحج والأوقاف) لتختص بتنفيذ سياسة الدولة في مجال خدمة ضيوف الرحمن، ووضع الخطط والأنظمة واللوائح التنفيذية، ومراقبة أداء القطاعات الأهلية التي تشرف عليها بهدف توفير “ضيافة بمعايير عالمية”. وتعد المرجع الرئيسي لأكثر من مليار ونصف المليار مسلم ممن يرغبون في الحج والعمرة، وقد شرعت هذه الوزارة في الاستفادة من ثورة التكنولوجيا، سواء على صعيد إنجاز أعمالها ومهامها، أو تقديم حلول تقنية للمتعاملين معها داخل المملكة وخارجها، وهنا لا يفوتنا التنويه بالمسار الإلكتروني لحجاج الداخل ونظيره لحجاج الخارج، اللذين يقدمان حزمة متكاملة من الخدمات (تصاريح الحج، التأشيرات الإلكترونية.. وغيرها).
وتواصل الوزارة بشكل مستمر تطوير الأنظمة وتوظيف التقنية ورفع كفاءة العاملين لديها، بالتوازي مع التطوير الشامل للمشاعر المقدسة بمكة المكرمة والمدينة المنورة، والبنى التحتية في المواقع ذات الصلة برحلة الحجاج والمعتمرين والزوّار، ضمن مجموعة خطط “رؤية المملكة 2030”.

كما تحول الحلم إلى حقيقة، إذ انطلق قطار المشاعر ليصل بين مكة ومنى، ثم امتد مساره إلى المدينة لأول مرة في التاريخ بطول 480 كم، مما يوفر الجهد والوقت على ضيوف الرحمن في قفزة تاريخية تحسب لسدنة الحرمين الشريفين.
ومنذ توليه المسؤولية، جعل رائد التجديد وربان التطوير، خادم الحرمين الملك سلمان وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، خدمة الحرمين الشريفين والسهر على راحة الحجاج في مقدمة اهتماماتهما، ورفعاها نصب عينيهما، ولذا فقد بلغ الاهتمام في عهد جلالته -حفظه الله- القمة؛ بتدشين خمسة مشروعات جديدة للمسجد الحرام، ضمن مخطط كامل لتوسعة المسجد، حسب رؤية مستنيرة نافذة، تجلت في توجيهه السامي بإعادة نسب كثافة الحجاج إلى ما قبل عام 1433هـ، كما يتضمن المشروع عدة أنظمة متطورة: للصوت، والإنذار بالحرائق لا قدر الله، وللمراقبة بالكاميرات الحديثة، وللشفط
المركزي للغبار، علاوة على المنظومة المتكاملة لمياه زمزم المبردة، وتعد هذه التوسعة امتدادًا للتوسعات السابقة وعلى تناغم تام مع سابقاتها.

وبهذا صار المسجد الحرام يتسع لأكثر من 1.9 مليون مصل، بمعدل 107 آلاف طائف في جميع أدواره في الساعة الواحدة.
والحق نقول؛ إن هذا التطوير قد جاء وفق أفضل معايير التصميم، وأرقى نسب الجودة، وأعلى مواصفات التطوير، وأجود خامات البناء، وأحدث الأنظمة الإلكترونية، ليتبوأ هذا المسجد الجامع مكانته اللائقة، وليلبس أحلى حلة.
فهنيئا لآل سعود الفوز بشرف خدمة بيت الله الحرام وثواب ضيافة زواره، وهنيئًا للأمة بهذه الخدمات الجليلة لأحب وأغلى شعائر الدين.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
    العزيز دكتور طارق عبد الوهاب
    أشكر لك هذا الطرح المصاغ بطريقة أدبية جيده جدا
    وأرجو منك وضع بريدك الإليكتروني على المقال لسهولة التواصل معك
    حيث أنني أحتاج أن أتواصل معك لأمر هام يخص المقال
    تحياتي لك
    المطوف أيمن عبد المنعم عبد الرحمن بانه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى