كان الحديث عن حملة الإصلاح والارتقاء التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وتحديات المشروع الطموح لتحقيق الرؤية ٢٠٣٠. وكان زميلي النابه شقران الرشيدي، يتساءل عن خطورة ظاهرة الفساد وتداعياتها على التطوير والتنمية، “وكيف يتسبب الفساد بمختلف أشكاله في الإخلال بالعدالة الاجتماعية، وسوء توزيع الدخل، وإضعاف الدولة وعدم الاستقرار؟”
قلت له إن الفساد ينخر في أركان الكيان، أي كيان، بدءًا من الأسرة والقبيلة، المؤسسة والشركة، وانتهاءً بالمجتمع والدولة والنظام العالمي.
والفساد قد يبدأ من أعلى الهرم أو أسفله، لايهم، لأنه كالعثة سرعان ما تفسد المنظومة كلها. فالفساد وباء، ينتشر كالنار في الهشيم. ويصبح مع الوقت ثقافة عامة، يتقبلها الناس كأسلوب حياة. وهنا تحدث المتناقضات التي لا يتقبلها عقل، فالعابد والضال، المتعلم والجاهل، الكبير والصغير يتساوون في تقبل الظاهرة كأمر واقع. نعم، قد تسمع الخطب والمحاضرات النارية عنه، لكن أكثر من يحاضرنا عن الفساد ينطبق عليه القول: إذا تكلمنا فكلنا أصحاب مبادئ، وإذا تعاملنا فكلنا أصحاب مصالح.
والفساد بطبيعته إقصائي، فهو يخرج من المعادلة الضعيف، والمنضبط، والنزيه. وهكذا لا يصل إلى المناصب، والعقود، والمنح، والغنائم إلا من له صولة وجولة في مجال التواصل والتقاسم والصيد الجائر. ولأن المتاح محدود، فهو، بالضرورة، يأكل من لحم أخيه العاجز عن منافسته في هذا الميدان، بشكل مباشر من خلال هضم حقوقه والاستيلاء على مستحقاته، أو بشكل غير مباشر بسرقة المال العام، والسطو على بيت مال المسلمين، وهكذا يخل الفاسد بالعدالة الاجتماعية، وتوزيع الدخل بشكل منصف. ولأن العدل أساس الحكم، فهو ينخر في كيان الدولة، ويهدد استقرار المجتمع.
وحتى تنجح برامج الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وتحقق أهدافها، لابد من توافر أرضية صالحة، وبيئة مناسبة. وهنا تأتي العدالة أولًا، ثم التوعية والتوجيه والتدريب. وكم فشلت مشاريع طموحة للإصلاح والتنمية في العالم الثالث بسبب جهل الفئات المستهدفة. وهكذا رأينا المساعدات الغذائية وعلاجات الملاريا والإيدز وكتب المدارس وأرفف المكتبات تباع في السوق السوداء بسبب الفساد. ورأينا مقاومة وترددًا وشكوكًا تواجه برامج إصلاح بسبب عدم الفهم والجهل بجدواها، والإنسان عدو ما يجهله.
كما أن للتعليم والتدريب دورًا حاسمًا في الاستفادة من هذه البرامج. وأشير هنا بكثير من التقدير لمشروع تطوير قرية البيضا في منطقة مكة المكرمة، والذي بدأ بالتوعية والإعداد الجيد للكوادر المحلية، وبدورها قامت بقيادة وتنفيذ المشاريع الإنمائية بكفاءة عالية. أتمنى أن يتم استنساخ هذا النموذج التكاملي في كل مشاريعنا الإصلاحية أي كان مجالها وأهدافها. وحسب علمي فأمير منطقة مكة المكرمة، خالد الفيصل، وجه بتوفير معطيات التجربة لكل الراغبين بالاستفادة منها.
وفي مسألة تطوير وإصلاح المجتمعات تبدأ الخطوة الأولى من البيت .. من الأسرة .. من المدرسة .. من المسجد .. من المكتبة والمتحف .. من الشارع والحديقة .. من منظمات المجتمع المدني. باختصار يبدأ تطوير إصلاح المجتمع من المجتمع نفسه. ثم يأتي دور الدولة لرعاية هذا الحراك وتوجيهه ودعمه.
عندما بدأت ماليزيا مشروعها التنموي التاريخي في الثمانينيات الميلادية كانت دولة فقيرة تصدر العمالة المنزلية والمزارعين؛ إضافة إلى زيت النخيل وبعض المنتجات الزراعية. وفي الدولة المجاورة، سنغافورة، كان الوضع أشد وطأة. فالأرض غير زراعية، والمياه تستورد من ماليزيا، وكافة الاحتياجات من الخارج. وليست بعيدًا عنهما كانت كوريا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية ومن احتلال ياباني قاهر مدمر تتوكأ على المساعدات الأمريكية لتعيل شعبها وتشبع البطون الجائعة.
في هذه البلدان الثلاث ركز قادة تاريخيون على التعليم وتنقية البيئة من الجهل والتعصب والفساد، وخلال عقود قليلة انتقلت اقتصادياتها إلى مصاف الدول المتقدمة. كان الزعيم الماليزي مهاتير محمد يلخص خطته التنموية في ثلاث كلمات: التعليم .. التعليم .. التعليم. ويشرح أن الشعب المتعلم سيتولى بنفسه تطوير بلده والارتقاء بها. والشعب الجاهل سيدمر كل إنجاز تقدمه له حكومته.
بهذا المفهوم بنت المملكة العربية السعودية مشروعها الحضاري. فقد حرص المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- على أن يعلم شعبه، ففتح له المدارس والمعاهد، وأطلق برنامج الابتعاث للمراحل العليا، وحرص على إعداد المبتعثين بمعهد متخصص في مكة المكرمة. وعاد الخريجون من مصر ولبنان والعراق، ومن بريطانيا وأمريكا وألمانيا وإيطاليا، ليقودوا مشروع التحول والتطور في كل المجالات.
وفي عهد الملك سعود، رحمه الله، أنشأت أول الجامعات، جامعة الملك سعود في الرياض فكانت السابقة التي استنسخت تجربتها العديد من الجامعات في كافة مناطق المملكة.
وفي عهد الملك فيصل، رحمه الله، فتحت المدارس أبوابها للبنات، بدأ بمدارس الحنان التي أنشأتها زوجته الأميرة عفت الثنيان رحمها الله، حتى وصل العلم إلى كل بيت، بكل مدينة وقرية وهجرة.
واليوم تستمر المسيرة التاريخية التي تواصلت في عهود الملوك خالد وفهد وعبدالله، رحمهم الله، وتنتقل إلى مرحلة المشاركات العلمية والأكاديمية، الثقافية والبحثية مع كبرى جامعات وأكاديميات ومعاهد العالم، كما بدا جليًا من خلال الاتفاقيات التي وقعها ولي العهد خلال زياراته الأخيرة لأوروبا والولايات المتحدة.
وخلال تلك العهود حارب ملوكنا ثقافة الفساد وسعوا إلى تطهير المجتمع من المفسدين. واليوم، في عهد ملك الحزم وأمير العزم، نشهد صولة جديدة في أسلوبها، شديدة في تطبيقها، شاملة ومتكاملة في أبعادها على المفسد كائنًا من كان، وعلى بيئة الفساد أينما كانت.
على أن هذا الزخم الذي يأتي من أعلى الهرم لا يكفي. فدور القيادات الدينية والثقافية والتعليمية لا يقل أهمية. نحن بحاجة إلى تصحيح مفاهيم راسخة، كالاعتقاد بأن السرقة من الدولة حلال، وأن الرشوة مكافأة، وأن الحاجة تبرر قبول “الهدية”. وتبريرات من نوع “قليل النهب ليس ككثيره”، و”الحال من بعضه”، و”إذا لم آخذ نصيبي فغيري سيأخذه”، و”كل مافعلت بناء على أوامر وحسب التعليمات”، و”لم أحصل إلا على مكافأة قليلة مقابل تيسير معاملة نظامية متعطلة”.
قلت للعزيز شقران الرشيدي نحن نقف اليوم على أعتاب مستقبل واعد، غير مسبوق، وتحول سيرتقى بنا الى مصاف أرقى الأمم والحضارات. ومشروعنا بحاجة إلى تعاون الجميع لتحقيق مقوماته الإسلامية الأعلى: العدل والخلق والتعليم.