(شذرات وهج ) تأملات في كتاب الله تعالى ..
ذاك الشعور الذي تحتاجه سائر المخلوقات -الأمن – تلك الشرنقة التي تحتوي شروط الاحتضان من دفء ورعاية وحنان ومعايير أخرى كثيرة توفر الراحة و الطمأنينة وتولد السكون والسكينة و بدون هذه المعطيات تفشل حياة المخلوق حيواناً كان أو حشرة أو حتى نباتاً حيث يهرب من الخطر و يميل و ينزع ولو بأوراقه نحو الشمس الدافئة واتجاه جذره نحو التربة المهيئة و العمق الآمن .
لامخلوق على ظهر هذا الكوكب يزهد في الاحساس بالأمن و الطمأنينة ، لهذا كان توفير هذه السلعة الغالية أمراً لا يقدر عليه سوى المولى عز وجل و يسخر لحدوثها من الأسباب ماهو أعلم بها .. و في سورة سبأ سرد لحال أهل سبأ و قد منّ الله عليهم برغد العيش وكثرة الرزق و ازدهار الحياة الاقتصادية و التجارية وكل ذلك لتوفر العنصر الخفي المتحكم -الأمن و الأمان- ما كانوا ليتمتعوا بالنعم و الجنات لو خيمت عليهم خيمة الخوف والرعب ، فالوفرة من المال أو الرزق لانفع فيهما لو صاحبهما انعدام للأمن و الطمأنينة .. و الأمن مطلوب لا على مستوى المدن و المجتمعات و الدول فحسب بل حتى على مستوى العمل والبيت و الأسرة والمؤسسة الزوجية أيضأً ، كانوا ينعمون في سبأ بتجارة مزدهرة و رحلات آمنة بين اليمن و الشام و الطريق ميسر و القرى تكاد تكون متصلة و في كل قرية سوق و زاد فلا يحتاجون للتزود بالمؤن من اليمن يقيلون في قرية و يبيتون في أخرى و تمتد مدة الرحلة ليال و أياماً تحت سماء آمنة وظروف مطمئنة و لكن … يا لابن آدم كم يغلب عليه غباؤه حين يرفل في نعمة و يعتاد عليها حتى يصل إلى مرحلة البطر و عدم التقدير والجهل بمقدار العافية فدعوا ربهم أن يجعل بينهم و بين الشام بعداً و نصباً ليركبوا المخاطر و يتزودوا بالمؤن من بداية الانطلاق وقد استجاب لهم الله سريعاً فتغير ذاك الحال الرغيد الفريد إلى حال بائس موحش وصارت القرى متباعدة والطرق موحشة وصاروا عبراً لمن يعتبر وفقدوا أهم عنصر للسفر و التجارة و الإقامة و التنقل فما عادوا “آمنين” .. !
وفي الواقع أن هذا السؤال من قِبلِهِم محير عجيب ، يذهب باللب، فما من عاقل يسأل الله أن يغير حاله للأسوأ أو أن يحدث له مايضره ، ولكن هذا دليل على سفه الإنسان أحيانا و سوء ما يطلبه لنفسه ، و قد جاءت بعض محاولات التدبر و التأمل من أستاذ جامعي في الاقتصاد في جامعة الإسكندرية حيث صاغ نتيجة تدبره و تفكره فيما سماه ” النظرة الاقتصادية الشرِهة” ، فأهل اليمن معروفون منذ القدم و إلى اليوم بتفوقهم في مجال التجارة و الاقتصاد و لهذا – و كديدن كل عصر – ظهر عدد من التجار الشرهين الذين يريدون السيطرة على السوق بما يشبه الاحتكار و أن يتحكموا بالأسعار سواء في الشام أو اليمن حيث أن يسر الطريق و أمنه كان سبباً في التيسير على المشتري و جعل الأسعار و السلع في متناول الجميع و هذا ما جعل هؤلاء التجار يفكرون لزيادة ثرواتهم فتمنوا لو صار الطريق وعراً صعباً موحشاً حتى يستطيعوا أن يتخلصوا من منافسة صغار التجار و يفرضون – و هم الكبار الذين يستطيعون وحدهم التنقل رغم وعورة الطرق – الأسعار التي يريدونها و هكذا تسببوا في أذى المستهلك المسكين ذي الحال المتوسط و كساد حال صغار التجار و دمار حال المجتمع بأكمله ناهيك عما نجم عن عدم الأمن و انعدام التيسير ..
هذه النظرة التأملية الاقتصادية قد تكون صحيحة فعلا كنوع من التوضيح و التخمين لسبب من أسباب ذلك السؤال العجيب الذي سألوه الله جل و علا ..
و بتدبرنا في كل ما سبق علينا أن نستقي الدروس و العبر ،
فحين يمن الله بالنعم على المسلم الحصيف أن يحفظها و يشكر ربه لتزيد و أن لا يبطر و على المجتمع المدرك أن يقدر قيمة الرزق والأمن حتى لا يعاقب بالحرمان من النعمة وانقلاب الحال ، كما نلاحظ أن نعمة الأمن سواء في المجتمع الكبير أو الأسرة يمكن أن تسلب بكثرة الذنوب و الخطايا و الزهد في الشكر والحمد ، فاحمد الله دوما حفظاً للنعم ، وفي كل عصر و في كل زمان يتكرر جشع أباطرة التجارة و حيتان الاقتصاد حيث الاحتكار والهيمنة و اللعب بمدخرات المساكين من متوسطي الدخل بل و بمصير المجتمعات اقتصادياً و إنسانياً مما يسبب فساد الحال في البر والبحر ..
نسأل الله الجليل أمناً لا يتغير .. وقناعة لا تتبدل .. و رضا يسكن الوجدان و حمداً لايفارق اللسان .. و شكراً يجسده السلوك وتترجمه الأبدان .. إنه سميع مجيب ..
مقال رائع .. سلمت انآملك..