لحقني الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم القاضي لدى باب منزله، وأنا خارج من جلسة مع أبنائه، ليسرّ لي بأمرٍ، قال: إنه يتذكر أنني دفعت خمسة ريالات خلال رحلة الحج، ولكنه لا يتذكر إذا كان قد أعادها لي أم لا، ضحكت وأنا اقول:: يا بو عبدالله، أنا واحد من عيالك، وكنت بضيافتك بالحج كما كنت في رمضان بشقة مكة، وفضلك علي يغرقني، ماجات على كم ريال؟ وضع الخمسة في جيبي وهو يقول: يا ابني ما أضمن عمري، ولا أقابل الله ولأحد حق علي. احتفظ بالخمسة أو تصدق بها، وسامحني لو كانت أكثر، ومسامحك لو كانت أقل!.
العم عبدالعزيز، والعم إبراهيم الحسون، والعم يوسف الخريجي، والشيخ محمد المرشد الزغيبي، والعم محمد السبيعي رحمهم الله، والعم بسام البسام، والعم إبراهيم السبيعي، والأخ صالح التركي، والأخ عبد العزيز السالم، صاحب ديوانية السالم الاقتصادية، عبدالله القاسم صاحب الأثنينية في مكة، وأخوانهم وأبناؤهم، وأمثالهم من خيار أهل القصيم، من المقيمين في جدة، أضاءوا حياتي قبل أن أزور منطقتهم، تعلمت منهم دروسًا مبكرة في الأمانة والشرف والعفة والخلق الكريم. وكان والدي- رحمه الله- يفرح بصداقتي لأبنائهم، فهم أقرب الناس لقيمنا وعاداتنا وموروثنا الديني والاجتماعي.
لذا لم أفاجأ كثيرًا بما اكتشفت خلال زيارتي الأخيرة للقصيم، لم يفاجئني أن القصيم “مؤدب” قاموسه يكاد يخلو من الكلمات النابية، حتى إننا في الحارة كنا نتندر على أبناء القاضي والبسام لأن أقصى ما يمكن أن يعبروا به عن غضبهم إذا ظلمهم الحكم في مباراة كأس “غشاش ياحكم”!، وبصوت لا يكاد يصل إلى خارج خط الثمانية عشر! ولا يخفى القارئ ما يحتويه قاموس الحجاز، وخاصة أحبتنا أبناء مكة، من تنوع وثراء في مثل هذه الحالات!
القصيمي يتبع كل طلب أوحتى احتجاج بـ”يجزاك بالخير” و”بارك الله فيك”، و”هداك الله”. وقد لا يصفق لك إن حققت له طلبه، ولكنه يبتسم ويشد على يدك وهو يدعو لك. واشتهر الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين- رحمه الله- بالبشاشة والرفق والتسامح والفكاهة ولطف المعشر، وعندما سُئل عن كتاب مسيء للإسلام قال لا تردوا عليه ولا تنشروه. ليت الغاضبين من الفيلم المسيء لسيد البشر صاحب الخلق العظيم يأخذون بهذه الفتوى.
وقبله كان الداعية في الجنوب الشيخ عبدالله بن محمد القرعاوي، وأستاذ المشايخ، الشيخ عبدالرحمن السعدي، والشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام، عضو هيئة كبار العلماء. والشيخ صالح الزغيبي، إمام المسجد النبوي، وعلى خطاهم، إن شاء الله الشيخ خالد بن عبدالله المصلح، أستاذ الفقه بجامعة القصيم، والداعية الشيخ محمد بن ناصر العبودي ارتحل إلى أقصى بقاع الأرض من سيبريا الاتحاد السوفيتي إلى مدن وقرى أمريكا، ولم يعترض على وجوده أحد، ولم يتلق طوال حياته أية ملاحظة في أي بلد ليته وأحبتنا مثله في القصيم يعقدون دورات في أسلوب الدعوة وأخلاق الدعاة لبعض شبابنا.
لم تفاجئني سماحة أهل القصيم فقد اعتدت على البسمة الهادئة، المطمئنة، المرتاحة، المريحة حتى في العزاء. أما في الاحتفاء فتكاد ترى الزغاريد في وجه المستضيف وأسرته وعيونهم. يحرص القصيمي على أن يخدمك بنفسه، ويقف مع إخوانه وأبنائه صفًا ليرحبوا بك ويطمئنوا على حسن ضيافتك، هكذا شرحت لزملائي الذين لاحظوا ذلك في بيت آل الرواف، وكيف أن الاطفال بدوا وكأنهم في يوم عيد.
ولا عجبت لشهامتهم، فقد كان أول اتصال جاءني بعد خروجي من جريدة “الوطن” (2007م) من رئيس تحرير قصيمي، هو الأستاذ/ خالد المالك، رئيس تحرير صحيفة الجزيرة، اطمأن على أحوالي، وعرض علي وظيفة رفيعة فورية بصحيفته، كان لو وافقت سيوجدها خصيصًا لي! وصحيفته نموذجًا للوحدة الوطنية بتنوع قياداتها وصحفييها من جميع مناطق المملكة. ولا عجب في مهنيتهم وأخلاقياتهم، فقد عملت مع الصحافي والكاتب سليمان العقيلي في “الوطن”، فكان “حالة خاصة” في النزاهة والصدق والترفع عن الصغائر، والإخلاص للواجب والهدف.
كما لم يفاجئني عطاؤهم وحبهم للخير، وتنافسهم على البر، خاصة للأقربين و”الديرة” فمراكز غسيل الكلى، مثلا تنتشر في كل بلدة، تبرعًا من ميسوري أهلها، تعالج المواطن والمقيم، ابن المنطقة وضيفها، والمستشفيات والكليات والمدارس والمكتبات والجوامع ومراكز تجهيز الموتى والجمعيات الخيرية، وحتى المتاحف والحدائق والطرق تنشأ كمبادرات فردية وجماعية في كل مكان، ففي بلدة صغيرة كرياض الخبراء، أربعة مشاريع كبيرة لمتبرع واحد، الشيخ محمد إبراهيم الخضير، وتشمل: مجمعًا تعليميًا متكاملًا، ومعهد العمارة والتشييد، ومركزًا نسائيًا خيريًا، ومركز الأمير سلطان الثقافي الحضاري.
واعتنى أهل عنيزة بالثقافة والعلوم (باريس نجد كما أسماها الرحالة الأديب أمين الريحاني في مطلع القرن العشرين) فكانت المراكز الثقافية التي أقامها المقتدرون من أهلها كمركز ابن صالح الثقافي، ومكتبات عامة كمكتبة إبراهيم الحسون. وفي عنيزة لجنة أهالي تهتم بإقامة المشاريع والمنتديات والأنشطة الثقافية وتدعم المتاحف الخاصة والمكتبات والمراكز العلمية والأدبية. وقد خرج من هذه المدينة الصغيرة الزراعية الكثير من الأدباء والشعراء والمفكرين أثروا الحياة الأدبية والعلمية في بلادهم والبلاد العربية.
يجتمع أهل القرية فيناشدون المسؤولين لإقامة الطريق أو المستوصف أو الحديقة، فإن تأخر المشروع جمعوا له وأقاموه بأنفسهم. تنافسهم شريف، فهم يغبطون جيرانهم، ولكنهم لا يحسدونهم. والغبطة تدفعهم إلى المطالبة بالمثل، سواء من الدولة أو من الميسورين منهم، ولذا لا تكاد قرية إلا وتوافرت لها كافة الخدمات، وأهمها البيئة النظيفة الهادئة المريحة التي تعكس بيئة البيت والمزرعة والنفوس الطيبة. بل إن لجان الأهالي تساعد في تعويض من ينتظر تعويضه من المالية ويتبرع الأغنياء بعقاراتهم لتسريع المشاريع.
فسوق الأنعام والطيور في بريدة والذي يضم المستشفى البيطري والمسلخ، ومدينة التمور وسوق الخضار، وأسواق عنيزة والمذنب ورياض الخبراء نموذج يحتذى في النظام والنظافة والهدوء ورقي التعامل. أما باريس نجد عنيزة، ولوحتها الفنية، المذنب، فبساتين مفتوحة مزروعة بالنخل، والطيب .. والناس. أسواقها التراثية المجددة، ومراكزها الحضارية وحدائق ومراكز وملاعب الأحياء، والبحيرات والنوافير كلها تعطيك إحساسًا بالسكينة والسلام والتسامح والوئام .. والرومانسية.
ثم هناك الحماس! وهذه قصة وحدها! فمنذ كتبت تغريداتي في “توتير” kbatarfi@ خلال الزيارة، وأنا أتلقى التعليقات والدعوات والمعلومات والاتصالات من قصمان المنطقة وخارجها، فهذا يصحح، وهذا يضيف، وذاك يعتب على عدم زيارة بلدته أو الكتابة عنها، وكلها تنتهي ببارك الله فيك! أعذر أي مسؤول “توصّى” بالقصيم خيرًا، فكيف تقاوم روحًا متوثبة، متحمسة، سمحة كهذه؟
الشيخ عبدالله القرعاوي إمام جامع الملك فهد، كما يروي لي المثنى التويجري، استفاد من زيارة الملك عبدالله- رحمه الله- وحضوره لأداء صلاة الجمعة وطلب في خطبته من خادم الحرمين الشريفين إحياء طريق الحجاج القديم، وتنفيذ طريق من القصيم إلى منطقة مكة المكرمة مباشرة، فاعتمد خادم الحرمين الشريفين ذلك، فولي الأمر يحترم طلبًا مبررًا ومقنعًا للصالح العام.
وأكثر طلبات القصمان كذلك، أما الطلبات الشخصية فنسبتها من الأقل وطنيًا، كما هي نسبة الفساد والرشوة. وترتفع نسبة المراقبة على المشاريع والنزاهة وكفاءة الأداء إلى أعلى المستويات، فالمشاريع تنفذ في وقتها، والمستحقات تسلم في توقيتها. الخوف من الله، والحياء من الناس من سمات مجتمع القصيم.
تذكرت حرص العم عبد العزيز القاضي- رحمه الله على لقاء ربه بلا حقوق لخلقه، عندما سألت الشيخ سليمان الراجحي عن شعوره، وقد تنازل عن كل ما يملك، ووقف جله لوجه الله حتى لم يبق لنفسه إلا مصاريفه الحياتية .. أجابني بإسهاب وإطراب .. ولكن لذلك قصة أخرى. قريبا الجزء الثالث: (القصيم نموذج للمجتمع المدني).
هههههه لايكون مناسبهم يا رجل نعنبو حي ابليسك باقي تصورهم ملائكة على الأرض . للتذكير فقط بمقوللأحد اكابر رجالهم يقول لو أخرج أهل بريدة فقط زكات أموالهم لن يبقى فقير في المملكة .