بعد زيارة لعدد من المشاريع الزراعية الكبيرة في القصيم، أتجهت جولتنا مع الإعلاميين السياحيين، التي نظمتها الهيئة العامة للسياحة للتراث الوطني، ضمن جولاتها لمناطق المملكة في السنوات الأخيرة، إلى مشاريع الشركة الوطنية ومزارع الراجحي. كان بانتظارنا الشيخ سليمان بن عبدالعزيز الراجحي، وابنه الدكتور محمد، حيث شملت جولتنا مزارع الدواجن ومصانع منتجاتها، ولقاءات مع السعوديين والسعوديات العاملين بهذه المشاريع.
كما قام الشيخ سليمان بتعريفنا على متحف ومعرض يشمل ابتكارات محلية للقضاء على الرائحة الكريهة التي تخرج من مزارع الدواجن وتؤذي جيرانها، وأخرى قام بتطويرها بنفسه للتخلص من الحشرات الضارة التي تصيب النباتات بتربية ونشر حشرات مفيدة تقضي عليها.
كما اطلعنا بكل اعتزاز على ممتلكاته الشخصية المتواضعة في بداية مسيرته الشاقة مع أخيه صالح لبناء إمبراطوريته المصرفية، ولعله يريد من ذلك تقديم درس غير مباشر لزواره وأبنائه وأحفاده بأن العمل شرف، وطريق النجاح ليست مفروشة بالورود. ولعله أراد تذكير نفسه بنعمة الله عليه ليشجعه ذلك على تقديم المزيد من العون لخلق الله، الذين لم ينالوا حظه.
على طاولة الغداء، حرصت على الجلوس بجوار الشيخ الجليل، بنية طرح أسئلة قد تكون محرجة، وملاحظة كل تعبير ينعكس على وجهه وصوته ويديه وهو يجيب. فقد تكون الإجابة الأدق في لغة الجسد. كما ساعدني القرب على طرح أسئلة أكثر من غيري، وكان عقلي وقتها يضطرم بها، وهذه فرصة قد لاتعوض للحصول على إجاباتها.
كان الشيخ سليمان يتحدث بشفافية وبروح فيها لطف وظرف عن أول خطواته في مسيرة العمل، فقد ترك الدراسة بعد السنة الثانية الإبتدائية، وعمل بائعًا للكيروسين وحمالًا يتقاضي نصف قرشًا في اليوم، عندما كان الريال يعادل ٢٢ قرشًا. ثم عمل طباخْا في شركة تعمل لحساب الدولة، وعندما رفض أصحابها زيادة راتبه، تركها وفتح بقالة رأس مالها ٤٠٠ ريال، جمعها قرشْا قرشًا طوال سنوات عمله.
بعد خمس سنوات من العمل التجاري انتقل من تجارة التجزئة للمواد الغذائية إلى بيع وشراء عملات الحجاج. ثم التحق بعمل لدى أخيه الأكبر الشيخ صالح في نفس المجال براتب ١٠٠٠ ريال، قبل أن يفتتحا شركة الراجحي للصرافة مع أشقائهما محمد وعبدالله، لتصبح أكبر شركات الصرافة السعودية. وبعد عقود من التوسع في جميع مدن وقرى البلاد، تحولت الشركة إلى مصرف الراجحي وأصبحت أحد أكبر المصارف الوطنية.
قصة الأشقاء والشركات الكبرى التي أنشأوها في مختلف التخصصات الزراعية والصناعية والتجارية، والمشاريع الخيرية الكبيرة والعديدة طويلة ومعروفة. إلا أن البعد الذي سعيت للتعرف عليه من الشيخ سليمان شخصيًا، كان البعد الإيماني والخيري الذي تحول على أشقائه، وعلى يده، إلى آلية عمل مؤسسي فعال وناجح.
كنت قد سمعت من ابنه الدكتور محمد خلال جولتنا قصة تقسيم ثروة والده الى قسمين، الأول وزع على الورثة في حياته، والثاني حوله إلى وقف خيري ينمى وينفق في حياته، ومن بعده (أطال الله في عمره ونفع به) على أعمال الخير. وكان القسم الثاني يعادل حوالي الثلاثين مليار ريال، قام الشيخ ونظار الوقف من أبنائه بتنميته وتطويره.
سألت الشيخ فجأة: في كل مشروع هناك لحظة ولادة. شرارة فكرة أو حلم أو رغبة تشتعل نتيجة لحدث أو موقف، لظرف أو حاجة طارئة. ماهي هذه اللحظة الحاسمة التي دفعتك لإنشاء الوقف؟
ابتسم ثم أجاب بعد تفكير: بالفعل، كانت هناك لحظة! كنت وقتها في المحكمة الشرعية لقضاء مصلحة، عندما استمعت لحوار حاد بين أخوين حول ورث والدهما. وفجأة صرخ أحدهما: (الله يلعن أبوك)!
كانت صدمتي قوية وموجعة. كيف يصل الأمر بابن أن يلعن أباه رغم أنه ترك له ورثًا كبيرًا أجتهد في جمعه عمره كله. لم ينفقه على دنياه، لم ينفقه على أخراه، بل تركه حبًا ورحمة وحرصًا على أبنائه. وهاهم من بعده يختلفون ويتقاتلون ويتداعون في المحاكم على ما تركه لهم. جافني النوم ليالًا، وشغلني الأمر طويلًا. وكان هاجسي أنني لا أريد لمالي أن يفرق أولادي، ولا أن يأتي اليوم الذي يلعنوني فيه!
صمت الشيخ الوقور لحظات، وبدا التأثر على وجهه المضيء، وخفتت البسمة القصيمية الجميلة على محياه. ثم عاد ليكمل بحماس: قررت بعده تفكير طويل ودراسة عميقة شاملة لمشروع العمر: أن أوزع نصف ما أملك على ورثتي، ليسعدوا ويتمتعوا به في حياتي. وأن أحتفظ بالباقي لآخرتي، وأنفقه في بلدي الذي كان له الفضل بعد الله فيما وصلت اليه، وأهله الذين لولا ثقتهم بي وتعاملهم معي، لما تحقق لي النجاح.
استعنت بأهل التخصص والعلم في المجال الشرعي والاقتصادي والإداري والمالي والمحاسبي، وطلبت منهم دراسة كيفية التنفيذ. وبعد أخذ وعطاء، وبعد الرجوع إلى العلماء والقضاة وولاة الأمر، تمكنت من وضع مشروع متكامل لآلية التنفيذ. وأسجل هنا أنني وجدت من الجميع التعاون التام، ومن ولاة الأمر الدعم والتشجيع، جزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
بدأت تنفيذ المشروع، فجردت كل أملاكي وأموالي السائلة والمنقولة جردًا دقيقًا شاملًا كاملًا. ثم حددت أنجح الشركات وأثمن العقارات، وجعلتها مع النقد في حساب واحد، وزعته على ورثتي بدقة شديدة، وعدل كامل، بإشراف المتخصصين. وبلغ بي الحرص على العدالة ورضا الجميع، أنني إذا وزعت أربعة عمائر متماثلة على زوجاتي مثلا، فإن اتفقن تم التوزيع، وإن اختلفن، أقمت القرعة بينهن.
ثم تفرغت للمهمة الثانية. إقامة وقف يشمل كل ما تبقى، ومن ذلك الشركة الوطنية لإنتاج الدواجن والبيض. كانت الشركة تخسر، فعملت مع الإدارة على إنجاحها حتى ربحت. وهكذا فعلت مع كل شركة ومشروع، خاصة مزارع النخيل، التي خصصت إنتاجها بالكامل للتوزيع على المستحقين في المملكة والبلدان الإسلامية، كفلسطين وأفغانستان والمناطق التي تتعرض لكوراث طبيعية.
حرصت على الاستدامة، فالعقارات من مجمعات تجارية وسكنية، والأعمال التجارية والاستثمارية هدفها الصرف على الجوامع والمؤسسات الخيرية والمشاريع التعليمية والطبية والإنسانية المختلفة. فلا يأتي يوم لا تجد فيه دخلًا كافيًا تسدد فيه مصاريفها فتغلق أبوابها وينقطع الدعم عن المستفيدين. واليوم، يمثل عملي في الوقف أمتع أوقاتي ويستهلك جل نشاطي.
سألته عن رأيه في معاناة الشركات العائلية بعد وفاة مؤسسيها، فقال: إنها مشكلة مزمنة، ومافعلته يستهدف تفادي تفكك العائلة وانهيار أعمالها. وأكد أنه وثق كل ما سبق، وجمعه في دراسة متكاملة، أقدمها مجانًا لمن يرغب في الاستفادة منها من أصحاب الشركات العائلية، ومن رجال الأعمال والأثرياء الذين يخشون أختلاف الورثة، ويحرصون على وقف جانب من ثرواتهم كصدقة جارية تنفع يوم الحساب.
وعما أبقاه لنفسه، قال: لم أبق شيئا، حتى الراتب. فأنا أعمل اليوم مجانًا كرئيس لنخبة يشكلون نظار الوقف، من بينهم بعض أبنائي، وفيهم الشرعي والمحاسب والإداري والاستثماري. كل ما أحتاجه من مصاريف حياتية، من سكن وأكل وشرب ومواصلات، أحصل عليها كنفقات، ولا أضع ريالًا في جيبي لغير ذلك.
وبالمناسبة، نفقاتي محدودة، فطعامنا أنا وزوجتي الأخيرة، من منتجات المزارع، وبيتي صغير، أحرص على توفير الطاقة فيه، ومواصلاتي بسيارة العمل. وقد وضعت لنفسي ميزانية لا تتجاوز راتب موظف، بشهادة إبتدائية، حتى لا أرهق الوقف بها. ومنهجي في حياتي (والذين أن أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكانوا بين ذلك قواما)، (أخشوشنوا فإن النعم لا تدوم)، (ومن أنفق ولم يحسب أفلس وهو لايدري).
اختتمت بسؤالي الأهم: ماهو شعوره اليوم وقد وزع كل ثروته، ولم يعد لديه رصيد في البنك، ولا حتى في المحفظة، وليس باسمه صك أو ملك؟ سكت لوهلة، ثم نظر إلي مبتسمًا، وأحسب أني رايت في عينيه بريقًا، وقال: أشعر بأني ”خفيف“ ”نظيف“ ليس علي غير ثوبي هذا! وعندما يأتي النداء! عندما يسترد رب العالمين أمانته. سأكون جاهزًا لتلبية النداء بلا أحمال ولا أثقال ولا أغلال! الحمدلله!