مقولة جميلة للشهير دستويفسكي (لم يعد العمر يتسع لمزيد من الأشخاص الخطأ )
في مقتبل العمر حين يكون الفرد كعودِ أخضر ندي .. وسطر خالٍ لم تكتب أول حروفه بعد ونهار لم يعقبه ستار من ليل أسود يحيل الرؤية ظلاماً والطمأنينة خوفا .. في تلك المرحلة يكون الإنسان وخاصة المرأة أشبه ماتكون بكتاب فارغ إلا من بعض عبارات متناثرة في رأس صفحة هنا أو ذيل صفحة
هناك تعبر عن مكنون تلك المرأة وخطوط شخصيتها العريضة من قناعات وتوجهات ، فيما عدا ذلك تظل الأحداث والأشخاص والخبرات يكتبون محتوى ذاك الكتاب سطراً بعد سطر وقطعة بعد قطعة عبر أيام العمر و أعوامه والعجيب أنه كتاب من نوع فريد إن قاربت أوراقه على النفاد و لازال هناك مايكتب تجد الورق ينبت من جنباته كبراعم تنفر من غصينها وهكذا طالما لازال في العمر بقية وفي الحياة إضافة من مجريات و يوم ينقضي العمر وتتوقف الحياة يقفل الكتاب على مكنوناته ويظهر الغلاف الخارجي ليحفظ مضمونه ، وليس أشقى ممن ينتهي كتابه و يقفل غلافه الطريق بينما لايزال حياً فهذا دليل على أن الرئتين تعملان لكن القلب قد شاخ و الوجدان قد احتضر ووجود كتابات إضافية لم يعد يفيد أو يهم فالملل قد حلٌ و اليأس قد تمكن وحينها يصبح مرور الأشخاص والأحداث على أحدهم لايحرك فيه ساكناً وكأنه ينتظر الموت و يرجو انغلاق الكتاب .
ويمضي العمر .. يقابل كل منا وجوهاً ونماذج من بشر يترك أحدها عيناً من ماء لجين يروي العطش تجري حتى بعد رحيلهم ويحفر أحدهم أخاديد من ألم و حذر وتوجس خشية تكرار الوقوع في براثن نموذج مماثل مستقبلاً .
ومع التقدم بالعمر وتزايد الخبرات وامتلاء صفحات الكتاب يكون الإنسان قد ملٌ وجود من لايستحق في حياته فيأخذ حيزاً ويشغل فراغاَ ويستهلك صفحة أو اثنتين وهو لايستحق سطرين لفقر مضمونه وسوء محتواه ، ومثل هذا لاينبغي أن يسرق من وقتي ولا يسحب من خلاياي بلسم الطمأنينة وسكينة الاستقرار ، ومن هؤلاء السارقين – سارقي الأمن ومنتزعي الرضا- طفيليون يظهرون في محيط الحياة يتسللون كنباتات متسلقة لاتعلم إن كانوا ذوي نفع أو ضرر، مثال على هذه الفئة ذئاب تتجمهر حول المرأة المطلقة ..كل يريد صداقتها واغتنام مميزاتها بدون مقابل بل بعضهم يرى اقتحام حياتها حق وكشف خمار جمالها واجب خاصة إن شعر بشعور من حب وإعجاب حيث يتوقع منها أن تكتفي بكلماته ولاحق لها في حياة كاملة شرعية تعطيها ماحرمت منه .
ومثال آخر على ذات الفئة أشخاص يعيشون بالقرب منك ربما قضيت ردحاً من زمن وأنت تجامل و تمنح وتعفو وتتجاوز وتهتم وأخذ كل ذلك من راحتك و اقتات هؤلاء على سعادتك وإن اكتفيت من تدليل أمزجتهم المتقلبة صرت مسجلاً في خانة من سواد محكوم عليك بالانشقاق والعصيان المعلن .
لم يعد في العمر متسعاً لأمنحه لسخف متذاكٍ أو تسلط مرتزق ، سأعطي لتلك النفس بين جنبات جسدي ماتبقى من عمري لتسعد ، تستحق أن أسلب حق الامتياز من غيرها لأهبه إليها فهذا هو العدل والإنصاف .
لم أحسب عمري يوماً بالأيام والشهور ولازال دم الشباب يسري في أوردتي الواقفة على باب العقد الخامس من العمر ومع ذلك لن أسمح لاحد أن يختلس من باقي العمر دقيقة إن لم يكن يستحق أن أجعله داخل أسوارحياتي .
وهج:
قِفْ تمهلْ .. حان وقت الانتظارْ…
حدُك الآن ذا البرزخِ الممتدِ
عُدْ تقهقرْ .. فاتَ عهدُ الاحتكارْ…
إما الجميلُ وإما الرحيلُ الأبدي
لاوقت عندي لِسارقي الأعمارْ …
إذهبْ ودعِ القلبَ بالرضا يتوسدِ