على عتبة الصيف ترد في ذهني أسئلة السياحة الكبرى و هي بحسب تنظيري الخاص ثلاثة أسئلة ، أجريتها وفق النموذج البلاغي الذي صغت منه نموذجا تحليليا للظواهر و هذه إحداها ،حيث جعلت الأسئلة على مستويات التصنيف البلاغي :بديع و بيان و معاني ، و هذا يعني أن السؤال الأول هو سؤال الجمال أو بصيغة سياحية أدق سؤال الطبيعة ، و أراه المستوى الأول الذي يناسب المبتدئين في السياحة أمثالي ، إذ يبقى هذا السؤال حاضرا في الذهنية السياحية مهما امتدت التجربة ، و غاية السائح في هذا المستوى التعالق مع الطبيعة في شتى تمظهراتها و صيغته هي : ما الأجمل ؟
أفتح قوسا هنا لسرد تجربة خاصة بدأت منذ عرفنا الهدا في أوّل خروج سياحي ،لكننا لم نطرح سؤال السياحة الأول إلا بعد أن عرفنا الشفا ، بحكم أن الثنائية هي التي تنتج في الغالب أسئلة من هذا النوع الخاص بجماليات الطبيعة .
بقي السؤال عالقا بين الهدا و الشفا إلى أن اتسع لاحقا في ثنائيات مكانية مع الاتساع الجغرافي و اتساع الطموحات ؛فانتقلت ثنائية الهدا و الشفا إلى ثنائية أوسع بين الطائف و أبها ، ثم أبها و سوريا ، فسوريا و تركيا ، حتى تجاوز الأمر إلى المقارنة بين تركيا و أوروبا، و منها إلى أن ظل السؤال حائرا بين النمسا و سويسرا ، أي البلدين أجمل ؟ و مع أن المسار هنا في جانبه الغربي إلا أن للشرق حكايته الأخرى و إن كانت أقلّ حضورا و تمظهرا إجتماعيا .
أغلق القوس غير المرئي عند هذه النقطة و أؤكّد أن كلّ ما سبق يمكن عدّه ضمن سنة أولى سياحة، أي المستوى الأوّل ، مهما امتدت التجربة كما أسلفت ، و من مظاهر هذا المستوى كثرة التقاط صور الأنهار و الأشجار و الشلالات ، و التسدّح على العشب الأخضر ، و هو كما يتضح يتناغم مع التشكيل البديعي في التصنيف البلاغي إذ كلّ ما فيه محسنات طبيعية لا توغل في ذاكرة المكان إلا من حيث هو سطح جغرافي أو طبوغرافيا جمالية ، إن صح استعمالي لمصطلح الطبوغرافيا في هذا السياق .
أما المستوى الثاني و هو أعمق فيوازي مستوى علم البيان ، و السؤال في صيغته هو : ما الأفضل ؟ هذا السؤال لا يعوّل على الطبيعة و لا المناخ بقدر ما يعوّل على المستوى الثقافي للبلد المقصود ، و على خدماته و مستواه الاجتماعي و الاقتصادي ، و لهذا يمكن عدّه مستوى متقدّما ينشد فيه السائح ثراء الزيارة من ثقافة و فكر و اطلاع على تجارب حياتية مختلفة ، لكنه يبقى سؤالا عاما لا يربط بين معطيات المكان و طبيعة السائح النفسية و الاجتماعية ، و من مظاهر هذا المستوى زيارة المتاحف و رصد ملامح المدن التاريخية و التجوال في الأسواق الشعبية.
يأتي بعد ذلك السؤال الثالث و هو الأعمق ، سؤال المعاني بحسب تصنيف النموذج ، و لأنه يوازي في النموذج البلاغي علم المعاني فالسؤال هنا سؤال ينبثق من “مقتضى الحال” ، بصيغة : ما الأنسب ؟
تحت هذا السؤال تنشأ الخصوصية السياحية ؛فثمة من تناسبهم البلدان ذات العمق التاريخي،و صنف آخر تناسبهم البلدان التجارية و الصناعية ، و ربما ناسبت قوما آخرين الأدغال داخل الغابات الموحشة ، و من مظاهر هذا المستوى تكرار الزيارة و ديمومتها مع الاقتصار على مكان ملهم يكون هو أصل المعنى و نواته و منبع التجلّي و الإلهام .
فإذا أعدنا النظر على المستوى الفردي فثمة من يكتشف ذاته كلما كانت وجهته بلدا اجتماعيا يفترش الضجيج ، و ثمة من لا يجدها إلا في القرى النائية المتدثّرة بالسكون التأمّلي ، و هكذا تبدو كل الأمكنة صالحة للتجوال السياحي بحسب المقاصد و الأغراض التي تُؤمّ .
و لا يكاد يصل إلى نواة المركز إلا سائح برتبة متصوّف يرى في المكان الواحد كلّ الأمكنة و في القرية النائية كلَّ العالم !